لوثتها النيران وأحرقتْ كل ما يمكن أن يُحرق فيها، اُنتهكت أحلامها لدرجة أن أحلامها تخلت عنها، فالأحلام إن أُهينت تبتعد ويمكن أن يطول ابتعادها ويمكن أن لا تعود. وكأن حياتهم المتعبة قد وضعت وساماً عليهم، أستطيع تمييزهم عن الآخرين، أستطيع أن اقرأ كل تفاصيلهم، تلك العيون المتعبة، الوجوه الشاحبة، الأجساد الهزيلة، وكأنهم يحملون أمانيهم بحقيبة رثة وخطواتهم تجرهم للخلف دائما ومهما حاولوا عبثاً يحلمون بمستقبلهم المجهول بقلوب منهكة من كثرة ما توالى عليها من الخيبات.
عيونهم لديها دائما ما تقوله حتى وإن امتنع اللسان، حتى وإن توقف كل شيء، فالعين لغة مميزة فهي تستطيع أن تبوح بكل شيء، دون أن ينطق اللسان ولو بكلمة.
تلك العيون التي تمتزج فيها البراءة مع الصدق لتخلق أعظم لوحة وتفصيل أودعه الله فيها. تلك العيون النقية التي لم يشوبها مكر أو خداع أو نفاق، شفافة جميلة تعلن عن لطفها دوماً. هكذا كنت أرى هؤلاء الصغار المتعبين الذين تسلل الشيب إليهم قبل أوانه كسنبلة انحنت رغما عنها، أو كزهرة صغيرة جرفها السيل بقوة ودون أن يكترث لنعومتها، أرواحهم مشوهة لكن عيونهم نقية وكأن الدمار لم يصل إليها بعد، سوى أنه مسها بمسحة من المرارة!.
هم لم يودوا أن تكون أرواحهم مشوهة، لم يرغبوا أن تحترق أرواحهم وتُمسي رماداً لا ينبت شيئا سوى أحلام غير واضحة المعالم كانت قد اختبأت بإحدى زوايا قلوبهم المهدمة، لم يودوا أن تشرق شمسهم خائفة أو يُعلن قمرهم حداده، كان ينبغي أن يكون عالمهم وردي مزين بضحكاتهم الجميلة وحقائب مدارسهم الملونة، ولوحاتهم التي ترسم فرحهم عند كل رحلة مع أبويهم أو مع أصدقائهم وأقرانهم. كان سيولد أملا عند كل زهرة يرسمونها وعند كل صفحة من دفترٍ خطته أناملهم الصغيرة، كان سيحتفي بهم ذلك الأمل ويكبر معهم.
لم يرغبوا بحياة تخلو من أبٍ يحنو عليهم وينير لهم طريقهم الطويل، فمازال هناك الكثير الكثير حتى يسيروا بمفردهم بطريق لا ينبت سوى أشواك قاسية مازالت أقدامهم أضعف من أن تواجهها!.
لم يرغبوا أن تتنفس أزهار قلوبهم دخان الحرب ورمادها الأسود فتموت خائفة حزينة.
لم يرغبوا أن يرقدوا كل ليلة بجانبِ دميتهم التي تحمل نفس مسحة المرارة التي تحملها عيونهم، لم يرغبوا أن تغادرَ الفراشات حقول طفولتهم منهكة وبأجنحة متكسرة. هم لم يودوا أن يولدوا في عالم مشوه بالحربِ والدمارِ.
ماذا فعلوا حتى تُسرق طفولتهم ويصادر حقهم في البحث عن أمنية وحيدة ألا وهي أن يروا آبائهم الشهداء بظل طيف قصير فقط ليخبروهم كم أنهم فخورين بتلك الشهادة!.
فليتداعى الكون وتنهار مروءته إذا خاف طفلا صغيرا من صوت رصاصة أصابت أحلامه وطفولته قبل أن تصيب قلب أبيه الشهيد. أي قسوة يحمل هذا الكون حتى يسرق أحلام تلك الصغيرة ويرمي رماد الحرب والكراهية على جدائلها الذهبية، فتنهمر اللآلئ من عينيها خوفاً وحرماناً ويعلن قلبها الصغير حدادا أبديا.
لم يتركوا لهم سوى طفولة ممزقة تحت أنقاض الحرب والدمار. لم يصغوا لعيونهم ولا لتلك الأشجار المضيئة في لوحاتهم والنجوم، النخيل، البالونات، الألوان والطيور، كلها مزقها الرصاص المتطاير من أفواه بنادقهم فتناثرت واستقرت على تلك الأرجوحة الحزينة التي تفتقد حماسهم عند كل يوم مشمس وجميل، وكأنها تريد أن تعيد الحياة فيها.
حروفهم الجميلة ودفاترهم التي تحمل أولى كلماتهم المتعثرة وكأنها أولى خطواتهم نحو المستقبل لم يسمحوا لها قتلوها ونثروا رمادها فباتت دفاترهم شاحبة لا تحمل الألوان وعيونهم فارغة وكأن براءتها غادرتها وأخذت ركنا قصيا في هذا الكون الضيق خوفا ورعبا. لم يتركوا للأطفال شيئا يعيشونه..
من المسؤول؟!
هل وجد في قوانين الإنسانية أنَّ على الأطفال أن يعملوا ويشقوا من أجل عوائلهم ومن أجل أن يظفروا بلقمة شريفة؟
أن يودعوا طفولتهم بلحد تزاحمت فيه أحلامهم وطموحاتهم؟.
متناسين كل أحلام الطفولة وعفويتها ومرحها حتى يكونوا مسؤولين! ترى من المسؤول عن كل ما حدث لهم وما سيحدث؟.
هم أحباب الله وأمانته، وما أعظم من خان أمانة أوكلت إليه فباعها ولم يراع حق الله وحق الحياة فيها.
الله خلقهم وأودع فيهم كل شيء جميل. أودع عنفوان البراءة فقوبلت بالحرمان، هذا الصغير أودعه الله في هذه الحياة ليكون له حق العيش الكريم، حق التعليم، حق أن يكون له منزلا دافئا يأوي إليه، أن يكون له مستقبل مضيء يرى فيه بذور أحلامه تنمو وتزدهر.
فأصعب ما قد تراه عينك طفل صغير بذلك الجسم الطري يعمل وقد أنهكه العمل ليكسب حق لقمته التي سرقت رغما عنه، يوما ما وسيكون أصعب من أي يَوم اُسترخصت فيه حياة الناس وأحلامهم، يوما ما ويا له من يوم عصيب وطويل سيمثل الجميع أمام الله سيقر الجميع بذنوبهم وآثامهم، سيقر ويعترف من فجّر أرجوحة الألوان وأدمى ضحكات الأطفال البريئة وأبكى تلك الصغيرة، سيأتي يومها على غير عادته مطأطئ الرأس وخجلا من أفعال دنياه لكن هيهات إنه اليوم، أمام عدالة السماء وسيسأل عن كل الأرواح التي شوهت بحرب أو قتل أو دمار سيكون منكسرا حينها ولا أحد لديه مثلما فعل بالطفولة تماما. حينها يأمر الله به وبأمثاله للسؤال: (وقفوهم أنهم مسؤولون).
اضافةتعليق
التعليقات