جميع ماحولي فرحون بذلك العنوان الذي كتبته المعلمة، إلا أنا نظرتُ الى اللوحةِ أراقبُ تلك الحروف بشجو آهاتِ الأسى، وبتنهيدة الحزن الذي أبى مغادرتي، نظرتُ الى الورقة البيضاء تحولت الى سوادٍ قاتم بلون ذاكرتي المعتمة، كتبتُ اسمي وسلّمتُها الى المعلمة خوفاً على بياضها من شوائب ما أحمل من مدلهمات شجوني، خرجتُ وأنا أسير بين صراخ صمتي، جلستُ في احدى المقاعد أراقب المارة، ذلك يعطي لابنته حلوى وهذا يراضيها كي لاتبكي، وتلك تجلس مع والدها، تتلقفني نيران الحسد وأكتوي بلهيبها، رفعتُ رأسي وأتكأتُ على حقيبتي أرى سعادة الطيور على أغصان تلك الشجيرات تداعب بعضها بعضا، أرى الالوان التي خُطِفتْ من براعمي، لم أشأ العودة الى ذلك الجحيم الذي يدعونه بمنزلي، عدتُ بخطوات الخيبة الى منفاي، أجر أذيال البؤس..
وما إن وصلتُ الى الباب حتى سمعتُ صراخهم، دخلتُ إلى المنزل متغاضيةً لأصوات الاواني صعدتُ من السلم الخلفي الى غرفتي حتى لا أراهم أمامي يتصارعون -كالعادة- رميتُ بجثتي على السرير أتتني رسائل التهنئة بعيد ميلادي -المَنْسِي- من صديقاتي على هاتفي- الذي أقتنيته بعد صراع بينهما من يدفع ثمنه - أجبتُ عليهن بحسرةِ عجوزٍ طواها العمر، ثم رميت ذلك الجهاز من يدي وانا انظر الى سقف المروحة التي تعزف لي ترنيمة الوحدة، لتكمل مسيرة ذلك الضجيج الذي يعيشني.
انهيتُ شيخوخة الطفولة وها أنا أعيش كهولة المراهقة بتلك السمفونية، اقتنيتُ جهازاً حديثاً ودخلت عالم الانترنيت وحصلتُ على جميع برامج التواصل عَلّني أتخلص من غربتي، تعرفتُ على الكثير من الفتيات وصار هو شُغلي الشاغل، أتجول من مجموعة الى أخرى ومن برنامج الى آخر، حتى أهملتُ دراستي، بعد فترة وجيزة أراد شاب التعرف عَلي، رفضتُ، وبَقِي ذلك الشاب يرسل الرسائل وكلمات الغزل، والخوف والحرص عندما لا اقوم بالنشر، جفاف حياتي من المشاعر رماني في وهم الحب والامان ولم أعلم أنها مجرد كلمات لإِيقاع الفتاة في الشِباك، بدأتْ علاقتي تزداد يوما بعد يوم، حتى استطاع أن يتربع على عرش قلبي المحطم.
بدأتُ التقيه سراً، وأشعر إن أبواب الحرية والحب والعطف كلها أنفتحت معاً، بدأنا نخرج معاً حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم، خرجتُ بقوى منهكة، بروح محطمة، مغطاة بالدماء، وفي يدي المِفَك مُغْرَق بالدم، أتتْ الشرطة لتأخذني وأنا كجثة غادرتْها روحها، ضجيج الصمتْ القاتل اعاد نسج خيوط البؤس على فمي، حفيف قلبي كَيَومٍ عاصف إرتفع صراخه، أُغْلقتْ القضبان أمام عَيْنَي اللاتي فَقدْن بَصيصهن..
ماهي إلا مدة حتى طلبوني للقاء الضابط، دخلتُ الغرفة وأنا معدمة الكيان، أخاف على كلامي من صمتي، رأيتُ في تلك الغرفة والداي، رمقتهما بنظرةٍ تحمل في طياتها حقد وألم وعتاب، اقتربا يحضناني وانا بقلبٍ كجلمود صخر، دفعتهما بيدي، ثم حررتُ تلك العاصفة التي كانت تنهش ذكرياتي، نعم أنا قاتلة، أنا قتلتُ ذلك الوغد الذي حاول خداعي لِيصل الى مبتغاه الدنيء، لستُ القاتلة فحسب بل هما ايضاً قاتلان، تعجب جميع من في الغرفة، بَهُتْ والداي ثم أردفت: هما قتلاني..
منذ طفولتي وأنا أسمع شجاراتهما الدائمة، لم ألقَ اهتمام، لم تسألني أمي كم عَلامتكِ، لم يأتِ أبي ليأخذني من المدرسة، أسير في الطرقات لوحدي، أعود الى المنزل لأسمع شجار شجار شجار، إن تأخرتُ يوماً لم يسأل عَلي احد، أسم الاسرة بالنسبة لي موضوع يُكتب في مادة الانشاء لا غير، أكتب الجنة تحت أقدام الامهات فأخجل من ورقتي، لاجنة تحتَ قَدم أم اضاعتْ ابنتها بل جحيم، عندما أطلب حاجة، ابي يقول لدي عمل وأمي كذلك، تعملون لأجل من؟ أنا هنا أعملوا لأجل مشاعري لا لأجل مجموعة من قطع القماش التي أرتديها..
تعرفتُ على ذلك الوغد الذي استطاع أن يغمرني ببحر من وَهم الدفئ والحنان، استطاع أن يَملي فراغات روحي، فكنتُ كطيرٍ بلاجناح شعر بعدم الامان في عِشّه غادره فلاقى حتفه، كل الفتيات يحلمن بالحب، إلا أنا كنتُ ابحث عن وطن أعيش فيه بهدوء، إستغل تلك الغرفة المُضِخّة للدم التي كانت تَسْكنُني ومَلئها بالفراغ..
أخذني الى ذلك المنزل، وَثِقتُ بكلامه المعسول بإنه يريد أن يُريني منزل أحلامي، حاول التعرض لي بدأتُ أصرخ لأُسمع نفسي لاني أعلم لاأحد ينقذني، أهرب منه، دخلتُ الى غرفة قديمة حاولت دفع الباب رأيتُ المِفك، وضربته حتى أطفئتُ الخوف بداخلي فأشعَلْتُ نار الرعب، تلك النار التي ستحرقُ ماتَبقى من رمادي، أنتما أذبتما شمعة طفولتي بكرهكما لبعض، وقد رَمَيتما زهور عمري في صحراء الحياة، سيدي الضابط حُكِم عَلَيّ بالاعدام مذ رأيتُ الغرور بعينيهما، كلاهما يحمل وَهَم الكرامة، لا تنازلات ولا تضحية ولامودة بينهما، حاولتُ ان أكسرَ حاجزَ (الانا) بينهما لم استطع، وقفتُ في احدى الخِناقات كحاجزٍ علني أُطْفئ نار الصراع.
حملني أبي ورماني على الارض، نظرتُ اليهما أخفي دموع الاسف واضعةً رأسي بين قدمي، اااه ياسيدي الضابط ارجوك، أحكم عَلَي بالاعدام الجسدي ارجوك كفاه تَعذّباً بروحٍ مُعدمة، اجابني الضابط سأُحيلُ الملف الى المحكمة وأمر بإرجاعي الى الزنزانة.
وبعد ان صدر حكم المحكمة عَلَيّ لبضع سنوات وبعد أن حصلتُ على تنازل من اهل الرجل، خرجت، خرجتُ الى منزلي، كان السكون يَعم المكان، بعد انتهائي من الاستحمام، وجدتُ احضان أمي مترعة معلنة عن ولادتي من جديد، وضعتُ رأسي في احضانها ويَدي بين قدمَي وغفوتُ بهدوء .
اضافةتعليق
التعليقات