إن ما يُخيم -عادة- على أجواء السحر هو الأمان حيث لا عدو يبطش، والسكينة حيث لا صخب يُزعج، والهدوء حيث لا أناس تُشغل، ومع هذا يأتي إلينا دعاء الفزع إلى الله تعالى واللجوء إليه، إنه دعاء" يا مفزعي"* الذي هو من أهم الأدعية المستحب قراءتها أسحار شهر رمضان المبارك، فهذا ليس من التناقض بشيء بل هو عين الصواب، ويوجهنا إلى قلب الحقيقة، وذلك من خلال التأمل في نفس عبائره فهو -كما يبدو- يبين لنا:
أولًا: أن الفزع إلى الله تعالى لابد أن يكون بشكل دائم في النفس، بل وفي أوج حالات سكونها وسكينتها، فاللجوء إلى الله تعالى لا يتطلب سبب بل هو نحو من أنحاء إظهار العبودية لله تعالى. فلكي تبقى النفس مستقيمة في توحيدها لابد أن تكون فزعة إلى ربها، وذلك مما ورد في أوله بقولنا: [يا مَفْزَعِي عِنْدَ كُرْبَتِي، وَيَا غَوْثِي عِنْدَ شِدَّتِي إِلَيْكَ فَزِعْتُ، وَبِكَ اسْتَغَثْتُ، وَبِكَ لُذْتُ لا أَلُوذُ بِسِوَاكَ وَلا أَطْلُبُ الْفَرَجَ إِلَّا مِنْكَ، فَأَغِثْنِي وَفَرِّجْ عَنِّي].
ثانيًا : ثم في قولنا: [يَا مَن يَّقْبَلُ الْيَسِيرَ، وَيَعْفُو عَنِ الْكَثِيرِ، اِقْبَلْ مِنِّي الْيَسِيرَ، وَاعْفُ عَنِّي الْكَثِيرَ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]، وكأن الدعاء يوجه قلوبنا لنوع آخر من موجبات الفزع، فنحن لم نأتي فزعين من عدو أو بلية أو مصيبة بل أتينا فزعين من طاعاتنا القليلة ومعاصينا الكثيرة، وما يجعلنا نأمن هو حسن ظننا بأن من فزعنا إليه غفور يعفو عما عصينا ورحيم يقبل اليسير من طاعاتنا، بمجرد أننا لجئنا إليه معترفين فزعين.
ثالثًا: إن في ذلك فتح لباب السلامة قبل الوقوع بما يوجب الفزع مما يتعرض له الانسان في نهاره من اختبارات وابتلاءات وهموم ومشكلات؛ قد تجعل هذه النفس تخرج عن حدود ربها أو تظهر جزعها وقنوطها، فالفزع لله تعالى من احتمال الوقوع بمثل هذا الحال مطلوب وواجب فالتوقي يوجب السلامة، وهذا ما نفهمه من المسائل الثلاثة التي نطلبها كغاية وعلل لهذا الفزع نحو الله تعالى وذلك بقولنا: [اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْاَلُكَ إِيمَاناً تُبَاشِرُ بِهِ قَلْبِي، وَيَقِيناً حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لَن يُّصِيبَنِي إِلَّا مَا كَتَبْتَ لِي، وَرَضِّنِي مِنَ الْعَيْشِ بِمَا قَسَمْتَ لِي يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ].
فالمطلب الأول هو الإيمان، ففي كتاب الله تعالى عبر بأن الإيمان تزيين إلهي في القلوب، وكأن بذلك إشارة إلى أنه مقدمة لنُجذب ونسعى لتحقيقه وجعله ذاتيًا قلبيًا، ولكن هنا في هذه الفقرات نطلب أن يكون هو الأصل الذي يملأ القلب، فلا يُزال بفعل تقصير يصدر منا ولا يتزلزل بفعل غيرنا.
أما المطلب الثاني فهو اليقين بعلم الله تعالى بنا وبما يُصلحنا، فلا نشك بحكمة ما يصيبنا وما يجري علينا من مقاديره الجارية وتدابيره النافذة، وهذا اليقين هو مترتب على تصديقنا بأن كل ما يصيبنا هو خير لنا. أما المطلب الثالث فهو تحصيل ثمرة الطلبتين، فمتى ما آمن العبد ووصل إلى اليقين رضى بقِسَم ربه وسكنت نفسه فلم تجزع ولم تهلع، لماذا؟ لأنها فزعت إلى أرحم الراحمين.
رابعًا: وفي قولنا: [يَا عُدَّتِي فِي كُرْبَتِي، وَيَا صَاحِبِي فِي شِدَّتِي، وَيَا وَلِيِّي فِي نِعْمَتِي، وَيَا غَايَتِي فِي رَغْبَتِي، أَنْتَ السَّاتِرُ عَوْرَتِي، وَالْآمِنُ رَوْعَتِي، وَالْمُقِيلُ عَثْرَتِي، فَاغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ]، أي من له مدبر وصاحب وولي وغاية وساتر ومؤمن ومقيل مثل أرحم الراحمين، كيف لا يفزع إليه؟ أم كيف لا يعيش حالة الأمن والأمان طالما هو ممن توكل والتجأ إليه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى وكأن هذه الطلبات هي مسائل تلقينية يُلقن بها العبد نفسه لتَستقر بوصلتها وتجد وجهتها الحقيقية وهي تسير كادحة في السير إلى ربها، لذا هو يختم بهذه العبائر المليئة بالتوحيد والتسليم والخضوع واستشعار معية الله تعالى وعونه ومعونته.
————-
اضافةتعليق
التعليقات