هناك فرق بين الشعور بالمحبة للآخر وبين الشعور بالواجب تجاهه، في الأول ستكون كقلب الأم، أو كمرفأ دافئ بالنسبة له وربما ستزخر له بالعطاء دون مقابل، وفي الثاني ستكون كمعلّم أقل ليومة لكن يساوره الاحساس بالمسؤولية في توجيهه وإرشاده وستجود عليه بالعلم والمعرفة والانضباط، أما إنْ تواجد كلاهما فأنت بذلك ستكون حضناً له يحميه ويحتويه ويغذّيه عاطفياً وفكرياً.
كدائرة ضيقة، فإنَّ على الأب والأم أن يكونا النموذج الأمثل هنا، فمن المفترض أن يتوفر في كل منهما هذين الشعورين مع تربية أبنائهم، فإن لم يتواجدا أو إن تواجدا بنسبة قليلة أو بتفاوت غير متوازن سينتج عن ذلك طفل في داخله خواء كبير، أو غير سوي، أو غير سعيد.
وكدائرة أكبر، أي المجتمع، من الواجب على أي دولة تراعي مواطنيها أو تتدعي العدالة أن يتوفر في قادتها هذين الشعورين أيضا، وهما شعور الحب تجاه الشعب، والشعور بالواجب تجاهه والخوف على مصلحته، وعليه؛ ينبغي أن تسعى لرفاهيته وسعادته، وأيضا تلبية حقوقه وتنمية أفراده ليسابقوا بقية الأمم.
أما إن لم تكن لديها هذين المبدأين، فستكون النتيجة شعب فقير ومتخلف، تقوده الحكومة كالقطيع، أو بالحديد والنار، وبأفضل الأحوال قد تتشكل ثورة أو انتفاضة تطالب بالاصلاح أو تُطيح برأس الدولة وحاشيتها.
ونحن نتصفّح صفحات التاريخ الصفراء منها والحمراء، تمر علينا صفحات تنضح ذهباً، نطالع قائداً غدا رمزاً حقيقياً للعدالة والانصاف والانسانية، نثر عبير المحبة بمواساته للفقير وأرسى قواعد العلم والبلاغة بخطبه العصماء وحارب الشرك والنفاق بحروبه الحقّة، إنه علي أمير المؤمنين، سيد الأنام وأبو الأيتام وأسد الله الغالب.
فقمة الانصاف والانسانية والعدالة نجدها في هذه الشخصية العظيمة، وكل القيم العليا نجدها متجسدة في علي بن ابي طالب.
علي وما أدراكم من علي، أمير التعايش والمداراة وهو القائل صلوات الله عليه: "مقاربة الناس في اخلاقهم أمنٌ من غوائلهم".
لم يكن عليه السلام متعصباً ولم يدعُ يوماً إلى التزمّت والتقوقع بفكر أو التمسّك بمكان دون آخر فيقول: "ليس بلد بأحق بك من بلد، خيرُ البلاد ماحملك".
ترى ما الذي ميّز علي المرتضى عن غيره؟
يقال رغبة الانسان في فعل الخير هي جوهر عظمته، وأيضاً إنَّ الافكار والأديان إذا لم يكن جوهرها سعادة الانسان فإنها لاقيمة لها.. ولذلك ولاغلو خُلِّدَ علي في أصالة الفكر والانسانية.. ولذلك أيضا قال الرسول صلى الله عليه وآله: "ذكر علي عبادة"..
وحين نتساءل لمَ حورب علي، ذاك الذي لم يأذِ أحد بل كان يتقي الله في نملة يسلبها جلب شعيرة؟!
لاشيء يفسر ذلك سوى الحسد من جهة، وعدم القدرة على تحمّل عدالة علي من جهة أخرى..
نعم، لم يتحمّل مبغضي علي ومنافقي الاسلام والفاسدين في السلطة مساواتهم من قبل الأمير مع بقية العباد، ولم يطيقوا الكمالات التي احتوتها نفسه الشريفة..
ولأنه ناجح وعظيم ودوماً للعظمة أعداء، ولأنه حرر الانسان وهم يريدونه عبدا لهم، لأن الحق مع علي وعلي مع الحق، وبطبيعة الحال الحق مرٌ لاتستسيغه نفوسهم المريضة، لأنه عمّر الأرض وازدهر الزرع والاقتصاد في زمنه، وهم يريدون المال لهم ليحتكرونه، لأنه أخذ بيد الانسان، لقد أراده فعّالاً، منتجاً، يسير نحو العلم والمعرفة، وهم لايريدون أي مرجعية للعقل بل يريدون الفرد مُسيّراً لامُخيراً، فالمتعلّم يسعى للحقيقة والأخيرة مصدر خطر وتهديد للسلطة..
بسبب كل ذلك حورب الامام وقتلوه وماقتلوه، لايزال علي عليه السلام حياً في تاريخ الانسانية والقلوب المزدهرة بالايمان والعقول النيّرة بالعلم..
تلك البذور التي غرسها بحنو في دولته الشريفة، ستزهر ورداً وبنفسج، أليس هو القائل:
"لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها". وتلا عقيب ذلك الآية الكريمة: (ونريد أن نَمُنَّ على الذين استُضعِفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهمُ الوارثين).
اضافةتعليق
التعليقات