في وجل العشق أعيش، بين ترانيم محبوب لم يعرني قلبه!، اتقلب شوقاً لكٍ وانا اساير ليلي علني أمس شيئاً من النوم.
ولكن ذكراك تأبى ان تفارق قلبي قبل عقلي.. فكل ما فيّ يردد حروف اسمك، تتهافت عليَّ الألسن: انساها، وتزوج غيرها!
ارميهم بابتساماتي التي تحمل وجع قلبي وجروحاته، ثم امضي بنفسي التي لا تتقبل غيرك.
من الذي سيفهم لغة العشق التي اكنها لكِ، لا أحد يا مليكة قلبي! لا احد سوى خالق العشق نفسه!.
درة الصدف، بنت عمي او بالأحرى تلك المحبوبة التي خطفت قلبي بأصلها وكمالها وجمالها الأخاذ، تلك التي تقدمت اليها ورفضتني لأني لا أكن لأهل بيت النبوة محبة في قلبي بينما هي كانت تتنفس هواء محبتهم.
بعدما وصل خبر استشهاد الحسين (عليه السلام) الى مسمع درة بدأ الجنون يتخبط في رأسها وهي تنادي في أطراف حلب وازقتها: يا ويلكم يا قتلة الدين، يا ويلكم يا قتلة الحسين.
تراءى لي بأنها بركان من الثورة لا يستطيع الف رجل من اخماده، وقفت بين بنات عمومتها وقالت بصوت عميق: يا بنات العم لقد قتل الحسين بن علي عليه السلام ابن فاطمة الزهراء، لقد قتلوه واخذوا حريم رسول الله سبايا ورأس الحسين وأهله على اسنة الرماح وهم الآن يتقدمون نحو حلب، من منكن تملك الشجاعة لتنصرني على تحرير الاسارى واستخلاص الرأس الشريف؟.
فتعالى صوت احدى الفتيات من بين الجمع:
-ولماذا لا يقاتل الرجال؟، نحن لا قوة لنا على القتال.
فردت درة بعينين يلمعان ثورة وغضب:
-من كانت منكن موفقة بالله وترغب ان تدافع عن دينها فلتبرز معي على القوم ومن كانت تحلم بمحاسن الدنيا وتجد نفسها كائنا ضعيفا لا حول لها في مواجهة اشباه الرجال فلتقبع في دارها.
ثم تركت المكان واتجهت الى أطراف حلب تحث الناس على النهوض، حتى وصلت الى دار بكر ابن سعد الأنصاري، فرحبت بها نائلة بنت بكر الأنصاري وتحدثت معها عما حصل مع آل بيت النبوة ومعدن الرسالة، فقالت نائلة بصوت وجل:
-سآخذ اذن الخروج من والدي ونتوكل على الله.
ثم اخبرت نائلة والدها فقال لها:
-سوف ادعو القوم الى مجلسنا مساءاً لنبحث في المسألة.
فردت عليه نائلة:
-يا ابتي إذا جاء المخاض لا ننتظر مشورة الرجال، ان كنت على دين محمد إئذن لي بالخروج وان كنت قد ارتددت عن الإسلام فلا طاعة عندي لك.
فأطرق ملياً وقال:
-يا ابنتي أخاف ان تقتلين.
فقالت:
-كل نفس ذائقة الموت وهل مقامي اعلى من الحسين وأهله!.
فرأت السكينة تعتلي وجه والدها فأخذت منه الإذن وهبت بالخروج.
وفي طريقي رأيت درة الصدف وعيناها تقدحان الغضب، رأيتها بألف رجل عربي يحمل الغيرة في قلبه، كانت تحرض الناس على القتال وتطلب منهم المواجهة فوقفت عندها وقلت:
-يا ابنة العم جاءني خبراً أنك تحرضين على قتال جيش بني الأمويين؟.
-وما في ذلك يا مصعب؟
-يا درة انا لست من تنادينه باسمه انا ابن عمك وتعلمين منزلتك في قلبي.
-يا اخي انا على عجلة من امري.
- أوَ تنادينني يا أخي!.
-اسمع يا ابن العم، لن اطاوعك على هواك وانت تناصب العداء لعلي (عليه السلام) ما دمت تسير على درب يزيد بن معاوية، ارجوك اذهب عن طريقي.
فتركتني ودخلت بيت والدها حتى تجهز نفسها للقتال، بينما انا بقيت في دهشتي وكأن جملتها الأخيرة كصاعقة اكلت نصف عقلي.
دخلت درة الى البيت فوجدت رجال العشائر مجتمعين لمناقشة الأمر فقال لها أحد الجالسين:
-يا درة الصدف، هلا صبرتِ حتى نتحزب وتتفق آرائنا.
وقفت درة وقالت بحزم:
-وفروا وقتكم... ولا تبحثوا الأمر اذ قد تتفقون على ان لا تتفقوا، تباً لتحزبكم ولأحزابكم.
فخرجت راكبة فرسها الأصيل وهبت بالرحيل، وما هي دقائق الاّ واجتمعت ٧٠ فتاة مع درة الصدف ونائلة، وخرجن من حلب يطلبن جيش معاوية وبدأت نائلة بإلقاء الرجز والشعر والفتيات من حولها كأنهن ليوث.
فسارت بهن في دجى الليل لتلاقي جيش الكفر وعلى بعد فرسخين من المدينة وقفت درة وجعلت الفتيات على شكل دائرة والقت عليهم كلمة كانت تحمل فيها أعمق الصور الثورية:
"البسملة، ثم يا بنات عمي واهلي وعشيرتي واصحابي، يا بنات المسلمين، ان أعوان يزيد الملعون قد جرموا جرما لا حدود له، وقد أبكى سكان الأرض والسماء، وأنتن سائرات الى ملاقاة القوم لا تقولوا نحن فتيات، وانما قولوا نحن مؤمنات والقوة من الله، واوصيكم لا تقاتلوا فرادى بل قاتلوا على شكل مجاميع كراديس، هكذا أوصى رسول الله (ص) مقاتليه ونحن في خروجنا لا نبغي سوى النصر او الشهادة، والسلام على من اتبع دين الحق ونور الهدى، فهلموا يا اخواتي".
وفعلاً سرن حتى طفح الليل في احشاء السماء فقالت احداهن:
-يا درة أو نبيت ليلتنا هنا؟
فأجابتها درة:
-يا بنت العم ان كنتِ تفكرين بالراحة فلا راحة قبل ان ننال من القوم، واما إذا لعب في هواك شيئاً..
قالت الفتاة مقاطعة كلام درة:
-لا، لا والله ما ساورني شيء وانما فكرت في الراحة لنحسن القتال.
-يا اختي ان راحتنا هي ان ننال من غايتنا فهل انتٍ معنا؟
-نعم والله.
وسار الركب بعد منتصف الليل، واستمر المسير حتى الصباح وفجأة قالت نائلة الأنصاري: يا بنت العم هذه الغبرة.
اجتمعت الفتيات ليتخذن قراراً في الهجوم فتفاجئن بعدد العدو فقالت درة:
-العدد كبير جداً، وخسارتنا لا محال لها مع هذا العدد، لنذهب ونستنصر العشائر لعلنا نصل الى غايتنا.
فوافقها الجميع وذهبن الى القرى والعشائر، وارسلت خمس فتيات الى المدينة بينهم يمانه، ليسترقوا اخبار بني أمية الذين اخذوا الرؤوس الى رحبة الدلالين، وعندما اقتربت الفتيات من الرؤوس المطهرة حاولوا تهييج مشاعر الناس، الاّ انها كانت محاطة بأربعين مقاتل شاهري السيوف، والاقتراب منهم يعني الانتحار، فقالت يمانه الى الفتيات الأربعة، تخاصموا فيما بينكم واجمعوا أكبر عدد من الناس كي ألقي كلمة واذوب بين الجمهور، حتى لا يتمكن أعوان الطاغية منا.
وفعلاً بدأت المشاجرة، ثم برزت يمانه وقالت بأعلى صوتها:
"أيها الناس لا تتشاجروا على سفه الدنيا وملاذها هذا رأس الحسين بن امير المؤمنين وأمه فاطمة الزهراء وجده المصطفى محمد (صلى الله عليهم اجمعين).
وغشت وجهها بالخمار وضاعت بين زحام الناس، اما الناس فقد عمهم الاستياء والغضب لكون خطابها كان تفسيرا لحقائق لم يكن يعلمها الأكثرية.
ثم التحقوا بالفتيات الاخريات، وفي الوادي التقوا ببني دئل، وطلبت من ساداتهم العون فخرج لها أبو الأسود ملبياً ذلك بسبعمئة فارس وراجل من جملتهم مئة امرأة.
وما هي الاّ لحظات وإذا بجيش قد أشرف على ديارهم يتقدمهم فارس صنديد وهو يرثي الحسين (ع) فتأملوه وإذا هو حنظلة ابن جذلة الخزاعي ومعه أبناء عشيرته، فتقدم إليهم وانضم الى الحشد، فترأس الجيش حنظلة وأبو الأسود ودرة الصدف.
وفي تلك الاثناء وصلت إليهم ومعي بعض من أخير رجالي وطلبت درة الصدف، فقلت لها:
-اريدك زوجتي.
-هيهات ان يحصل ذلك وانت تناصب العداء لأهل البيت.
ابتسمت بحزن وقلت لها:
-هذا كان في الماضي، الا إني اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا عبده ورسوله، واشهد ان علياً ولي الله.
فساد الصمت بين الجميع وكبروا بأعلى أصواتهم ثم قلت:
-أعلن خطوبتي على بنت عمي درة الصدف.
فسكتت هي بينما البسمة الحزينة تسكن زاوية شفتها.
وشهرت سيفي وحزمت عزمي ان اقاتل عن حرم رسول الله علني ابيض وجهي المسود امامهم، الاّ ان درة أصرت ان تخرج اولاً، فساقت بفرسها وهي تنظر اليّ وتقول: قبلت بك زوجاً.
ثم اتجهت نحو جيش الامويين بشكل مفاجئ، وصممت بالحملة على أحد المرتزقة وضربته على صدره فخرجت السنان من ظهره، فسقط متخبطا بدمائه ثم عطفت على آخر وهو مراد بن شداد المدحجي وطعنته في قلبه حتى خر صعقا، واستمرت بالقتال حتى قال أحدهم: "والله هذه ليست فتاة انها من الجن!".
فنزلوا الى الساحة واشتدت المعركة بين الفريقين، وتمكنوا من استرداد السبايا والرؤوس، الاّ ان خولي (عليه لعائن الله) طلب النجدة من حلب وحمص وحماة ليكيد كيده الشيطاني.
وطلب حقن دماء المسلمين بشرط الهدنة، فنظر القوم في ذلك، ووافقوا على الهدنة، وبعد سويعات من ذلك الحدث وإذا بأصوات تجلجل الأرض فعرفوا بأن القوم الكافرين نكثوا العهد اذ جاء من حلب عدة آلاف مقاتل، ونادى خولي:
-يا أبو الأسود، يا حنظلة ويا درة الصدف استسلموا والا قتلناكم جميعاً.
فأجابهم أبو الأسود:
-نود ان نعانق الحسين (عليه السلام).
واشتد القتال مرة أخرى، بينما كانت قوات خولي اضعاف عدد جيشهم، وكنا نقاتل حتى سقطت درة الصدف على الأرض، وبسقوطها شهدت الموت في عيني وخرت قواي.
وما وجدت نفسي الاّ عندها بينما الجيش الأموي تمكن منا، فمن انسحب انسحب، ومن استشهد فقد زرع بدمائه الزكية الروابي القريبة على حلب.
حفرت لها قبراُ في قلبي قبل الأرض، وكتبت عليه: "هذا قبر الشهيدة المجاهدة في سبيل الله درة الصدف بنت عبد الله بن عمر الانصاري زوجة مصعب بن محمد الانصاري".
اضافةتعليق
التعليقات