في قاعة المحكمة دخلت السيدة رباب على عجلة حاملة معها مجموعة من الأوراق، ترتدي بدلة سوداء عرفت أنها المحامية التي تترافع في القضية، جلس الحضور في انتظار الحكم الذي يصدر، بعدما طلب القاضي في حضور المتهمين، الثواني تمرُ مُتثاقلة جدا، همسات بين أهل المتهمين، بينما يتنهد الطرف الآخر من القضية متألما وينتظر عدالة المحكمة، فتخرج الدعوات متراصفة نحو السماء، وجوه المتهمين باهتة شاحبة، تكاد أن تنطق بسوء أفعالهم ملامحهم لا تسر أبدا.
صمت القاضي بعدما قرأ الحادثة، ورفعت الجلسة لمدة ساعة ونصف، هذه المدة ستجعل من المظلوم ظالم ومن الظالم مظلوم ولو انعكست القضية ودخلت فيها الأموال والأسماء الكبيرة، لكنها ما تغيرت لكن لن تكون أقوى من عدالة الله في الأرض.
والكثير من الدعوات والصرخات تعلو من القاعة، بعضها مكسورة بجناح الظلم وإن رفعت لأنها ستعود باللعنة على صاحبها، وأخرى تكتفي بقولها حسبي الله نعم المولى ونعم النصير.
مع أصوات الضجيج صوت قطع كل هذا وهو يقول محكمة..
دخل القاضي وأمر بأن يستمع إلى محامي الدفاع والشهود، تغرب الحقيقة للحظات، بعدما تحدث محامي الدفاع وجعل من المتهم المجرم نبيلا وأنه تعرض لحالة نفسية مما جعله يفعل هذا..
لم يقتنع القاضي بما سمع وطلب من الشهود القسم على كتاب الله والافصاح بما جرى، تقدم الشاهد الأول وقال ما كان يعرف، الثاني أيضا..أين الشاهد الثالث لم يحضر.. ما السبب؟ صمت عجيب في قاعة المحكمة، اصفرت ملامح المتهمين، لماذا لم يحضر؟ لا أحد يعرف السبب؟ طلب القاضي أن يرسل لهم بلاغ في حضورهم..
رفعت الجلسة مع انتظار حضور الشاهد الثالث.
شعرت رباب أن هناك شيء حصل مع الشاهد الثالث، توسلت أصوات المجنيين في أخذ حقهم وأنهم تعرضوا إلى فاجعة كبيرة..
أجابت المحامية: لن أتخلى عن القضية حتى تشرق الشمس من الجنوب.
هذه الليلة هي أشد الليالي على قلب رباب فهي بين اظهار الحقيقة وبين ترك الأمر بعدما تعرضت لتهديد من قبل أهل الجاني وهناك خطورة لو تابعت القضية، دقّات قلبها سريعة جدا لم تعهدها من قبل، تركت أوراق القضية على الأريكة، ودخلت في حجرتها، رحل النوم بعيدا عن جفون رباب، جلست تبحث عن شيء يجلب لها الراحة والاطمئنان، لا شيء هنا، على جانبها رف عتيق عليه بعض الكتب جالت عيناها في الكتب، نهج البلاغة، قصص أمير المؤمنين، قفز قلبها وشعرت أنها تجد ما ينقذها في هذه الكتب، على شرفة الحجرة جلست تقلب صفحات الكتاب، تحدق في الكلمات بينما فكرها كان يحتضر، أمضت الليل تقلّب الكتاب وتدوّن القصص في ذاكرتها، حتى بزوغ الفجر، موعد المحكمة يقترب ساعات فقط وتنتهي القضية، تنفس الصبح، تنتفس الصعداء ترتدي الروب الأسود، وتردد في داخلها كلمة (حَسَكِ السَّعْدَان).
وصلت المحكمة، انتظار قاتل بين الحق والباطل، اجتمع الحضور وفتحت القاعة بحضور القاضي ومحامي الدفاع والشهود، بدأ القاضي ومحامي الدفاع في القضية عندما وصل عند محامي المجني عليه، وقفت وطلبت من القاضي أن يستمع إلى الشاهد الثالث بكل دقة، دخل الشاهد الثالث خائفا يرتجف، رفض أن يقسم وعندما أعادوا الطلب عليه مرة ثانية، غير شاهدته، وقال أنه كان تحت التهديد والضغط، وإن المتهم كان يعلم أن الشاب الذي قتله فقيرا ولا يملك غير تلك العجلة التي تعيل عائلة لكنه رفض وطلب أن يقتله ويسرق عجلته.
صرخت والدته آه يا ولدي..
القاضي: الصمت رجاءً.. أكمل ماذا بعد؟!
الشاهد: بعدما قتله كان هناك حفرة عميقة ترك جثته وغادر.
وتحدثت رباب: أنا ايضا سيدي القاضي تعرضت للتهديد والقتل في حال ترافعت في القضية وهناك أدلة ومحادثات تثبت صحة كلامي مع دفع مبلغ من المال كبير جدا في حال رفضت الدعوة، فكرت في داخلي وبحثت حتى وجدت ما يريح عقلي وقلبي ويجعلني في راحة تامة هو كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهو ومن كلام له عليه السلام يتبرأ من الظلم:
(وَاللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا).
فكيف بقتل نفس من دون جرم أو حساب وحتى يبقى يعرف الجميع فعلته الشنعاء هذه، وافقت على القضية وأنا أتحمل ما يقع على نفسي مادمت لم اساعد ظالم أو مجرم، وأقف مع المظلوم وإن كان ميتا، وقرار الحكم والتنفيذ لكم سيدي.
القاضي: سيعلن عن الحكم قريبا ويبقى المجرم خلف القبضان لينال فعلته، "انا وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا).
اضافةتعليق
التعليقات