انتصف الليل وغطّت المدينة في سبات عميق، وأطلّ القمر يحرس بيوت الفقراء من لصوص الظلام، سالت دمعة على وجنته، قطّعت أوتار الصبر، وسكَنَتْ في منتصف وجههِ، كما يجلس الخال على خدّ الفتاة، أبت السقوط، فما زال شبحُ أملٍ يلوّح في سمائِهِ، غطّى القلق تفاصيل وجههِ، كان جالساً أمامَ بابِ بيتٍ طينيٍّ، زيّن الفقرُ كلّ شبرٍ فيهِ.
مسح الدمعة بكمِّ ردائهِ، ووقف يتلفّتُ يميناً ويساراً، يمدّ بصره الى آخر الزقاق، ينتظره.
عاد يبكي بصمت، فإنّها الليلة الثالثة التي لا يزورُهُ فيها، دارت في ذهنِهِ تساؤلات، زادت قلقَهُ!
هل هو مريض؟
هل غادر المدينة؟
هل أصابه مكروه؟
هل نسيني؟
غطّى وجهه بكلتا راحتيْهِ، طارداً تلك الأفكار المخيفة، التي أصبحت غمامة سوداء، تلف قلبه وتعصره.
نهض واقفاً، أخذ يجرّ قدمه بصعوبة، مجتازاً البيوت ليصل الى آخر الحارة، علّه يلمح طيفَهُ من بعيد، لكن بعد دقائق عادَ أدراجَهُ، تعلو الخيبة ملامحَهُ، فهو لن يأتيَ كالليلتيْن الماضيتيْن.
جلس أمام البيت واضعاً رأسَهُ بين ركبتيْهِ، متّكئاً على حائط متهرّئ، كان يمسك سقف البيت بمعجزة، تسلّلت إلى رأسِهِ ذكرى آخر ليلة، كان النسيم بارداً حلواً حين أقبل من بعيد، تداعبُ النسماتُ أطراف عباءته، على كتفِهِ جرابُهُ، متلثّماً بعمّتِهِ كعادتِهِ، ما إن رآهُ الصبيّ حتى تهلّلَ وجهُهُ فرِحاً، وصاح:
- ملاكي الملثّم! وهرَعَ إليه راكضاً، فأنزلَ الرجلُ الجرابَ على الأرضِ، ونزَلَ جالساً القرفصاءَ، فاتحاً ساعديْهِ، مستقبلاً إيّاهُ بأحضانِهِ، قفز الطفلُ وعانقه، مسح الرجُلُ على رأسِهِ، وقبّله ثمّ أجلسه بقربه، واضعاً رأسه على صدره، ويسأل عن أحوالِهِ وأحوالِ أهلِهِ.
ثمّ أخذ يلاطفُ الطفلَ ويداعبُهُ، ويضحكه ويعطيه من الحنان والرأفة والعطف ما كان فقدَهُ بعد رحيلِ أبيهِ في وقعة الحرّة الأليمة، وهو في المهد صغيراً، كان له كالأب يعظُهُ ويعلّمه بين طيّات كلامه اللطيف الذي كان ينساب رقراقاً على مسامع الطفل، ويسكن قلبه زارعاً فيه بذورَ الرحمة والأمل، وتارة يكون له نظيراً يلاعبه، وأخرى حضناً دافئاً يحنو عليه إذا مسّه بردُ أو ألم.
حتى تعوّد الطفلُ على مجيئه كلّ ليلة، ليضيء له نهار اليوم التالي بالحبّ والبهجة..
مسحَ الطفلُ دموعه الحارقة، وراح يتذكّر وصايا الملاك له، بأن يكون بارّاً بأمّه، والدعاء لأبيه بالرحمة والمغفرة، وعلّمه بعضاً من الدعاء ''اللَّهُمَّ اشْكُرْ لَهُمَا تَرْبِيَتِي، وَأَثِبْهُمَا عَلَى تَكْرِمَتِي،
وَاحْفَظْ لَهُمَا مَا حَفِظَاهُ مِنِّي فِي صِغَرِي.. اللَّهُمَّ لَا تُنْسِنِي ذِكْرَهُمَا فِي أَدْبَارِ صَلَوَاتِي، وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ نَهَارِي..''.
ظلّ صدى هذه الكلمات يتردّد في أذنه حتى انتشله النوم من ألم الفقْد إلى سكينة الوهم..
في صباحِ يومٍ غطّت الغيوم فيه شمسَ السماء وغيّرت حالها، رياح مزعجة عصَفَتْ بالمدينة، قلبت أحوالها، وعلى إثْر ذلك جلَسَتْ مذعورةً تتفقّد مكان اضطجاعِهِ، فلم تجده، ذعرت والدتُه، وهرولت تفتح الباب لتجده يغطّ في نومٍ عميقٍ، متوسّداً الحائط، وملتحفاً ذرّات التراب الصغيرة..
أقبلت عليه لتوقظه، هزّت كتفه بلطفٍ وهي تقول:
- ولدي حبيبي.. حتى استيقظ فزعاً مذعوراً، صاح: هل جاء؟! عانقته الأمّ بلطفٍ، وابتلعت غصّة كادت أن تبكيها وتؤذيه، ربتت على ظهره قائلة:
- سيأتي لا تخف!.. كان جالساً في زاوية المنزل مكفهّر الوجه، تعلو فوقه غمامة الألم والوهن، لا يحرّك ساكناً منذ الصباح، كأنّ الزمن بقي حبيس اللحظة الأخيرة، التي جمعته بملاكِهِ ثمّ توقف يأبى المضيُّ قبل قدومه من جديد.
هناك في سوق المدينة الشعبيّ حيث الأزقّة يملؤها الفقراء الذين كانوا يعرفون بعضهم بسيمائهم، أقنعت طفلها بعد الكثير من الترجّي، كي يخرج معها للسوق، علّها تخفّف عنه وتنسيه ألمه، وتعوّض عجزها عن مساعدته..
ضجيج الناس كان عالياً، أصحاب المحالّ قد غلّقوها، وأخذوا يسيرون متّجهين للجانب الآخر من المدينة، كانت تقف مندهشة ممّا يحصل، هل هو يوم الحساب والنشور؟ تقدّمت تسأل إحداهنّ:
- لكن ماذا حدث؟ أجابتها السيدة:
- إنّ الإمام علي بن الحسين السجاد انتقل اليوم الى ذمّة ربّه، وهم عادوا من تشييعه توّاً. وقع الخبر على مسامعها بقوة تاركاً خلفه جراحات تدمي القلب لمصائب أهل بيت النبي.. مشت معه والهمّ ثالثهما وهي تسمع أحاديث الناس، قيل أن السم فتك به؟ لكن من سمّه؟ هل هو حفيد الرسول؟ يقال أنه كان شاهداً على وقعة الطفّ، لقد سمعت أن الوليد بن عبد الملك من سمّه، بصوت خافت.. حتى سمعت مالم تتمنى سماعه ابداً "قيل انه كثير الصدقة في الليل حيث كان يغطي وجهه خوفاً من الرياء، لكن هل صاحب الجراب كان علي بن الحسين؟ أجل هو حتى أنهم وجدوا آثار الجراب محفورة على كتفه عند تغسيله" كانت تلك الكلمات الأخيرة ذات وقع مختلف فكأنها تجرعت ذات السم الذي فتك به عليه السلام هوت ببصرها رأته شابح البصر وجهه يخلو من أي تعبير للحياة عدا دمعة معلقة بأهدابه تحاول أن تحييه بعد موت شعوره.. بني، قالت له، لم يرد عليها، جلست قبالته وهزت كتفه وهي تناديه ولدي، نظر إليها نظرة يتيمة منكسرة لا ينعكس الضوء خلالها بل تمتصه عينه. يعيش اليتم مرة أخرى بل هذا أشد وأكبر.. تمتم بصوت متقطع، ملاك ملاكي الملثم رحل!.
أفلت يدها وأخذ يركض أمامها دون أن تثنيه صرخاتها خلفه وجريها علها تلحق به حتى قادته قدماه الصغيرتان هناك عند البقيع حيث مدفن آل بيت النبي. وصل عند القبر الجديد وهوى بجسده عليه يعفر خده بتراب القبر حته اختلط الدمع والتراب على وجنته وهو يخاطبه بنبرة يتيم كسره الفقد:
- من لي بعدك ابتي.
اضافةتعليق
التعليقات