"أطل صباح العيد بشمسه البهية وتسللت بخيوطها الذهبية الى نافذة حجرتها الصغيرة لتداعب وجنتيها المجعدتين, فانتفضت من على سريرها مسرعة صوب المطبخ لتحضير كل ما يلزم لظهيرة اليوم من وجبة غداء كبيرة تكفي لأولادها وإخوتها وأخواتها, فهي عادة قد توارثتها لسنوات اذ يُجمع شمل العائلة في صباح أول يوم العيد في بيتها.
كانت نشيطة، لم تكن تشكو مرضا, تتنقل في أرجاء بيتها كالنحلة وهي تعمل دون ملل أو كلل, أفقت من نومي لأساعدها إلا إني لم أجد ما افعله, فقد جهزت أمي كل شيء منذ الصباح الباكر".
تحدثت لنا عذراء ذات السبعة عشر عاما/ طالبة في مرحلة الثانوية قائلة: "كان وجه أمي يشع فرحا وقد اعتدت أن أرى هذه الفرحة على محياها واللمعة في مقلتيها في أي مناسبة تحييها, والتي تدعوا بها أخواتي المتزوجات وتهمّ أيضا بالاتصال بزوجة أخي أكثر من مرة, لتؤكد عليها حضورهما في الموعد خوفا من أن ينسى فهو شديد النسيان, إلا في يوم العيد لا تتصل بأحد, فهم يحضرون إليها ليباركوا لها إتمام الشهر الفضيل ويبادلوا التحايا فيما بينهم".
تابعت قائلة: "جاء موعد الغداء وجلس الجميع على سماط الطعام, طلبت بأن ينتظروا حضور أخي عادل, وكالعادة جلس الجميع صامتا وهم ينتظرون معها قدومه المرتقب.
كانت عينيها تتلظى شوقا لرؤيته, ولا تنفك عن النظر إلى الباب, تارة تنهض إلى فتحه لربما تشاهده على قارعة الطريق, وتارة تجلس معنا تنتظر بقلب يقطر أسى, كنت انظر إلى وجوههم الكل كان يحبس دموعه في المحاجر ويخفي غصة قلبه, وبعد يأسها تعود لتقول: (تفضلوا عادل يتأخر راح أخليله غده من يجي ياكول على راحته).
أخي الوحيد عادل الذي استشهد قبل ثلاث سنوات ترفض أمي تصديق ذلك وهي تعيش ليومنا هذا على أمل أن يزورها يوما ما".
قصص كثيرة تحمل بطياتها فرحا مغموسا بترانيم الأمهات بين ماض جميل وحاضر أليم, لما يمر به عراقنا من ويلات الحروب وصولا إلى نكبات الإرهاب، لم تكن أم عادل هي الوحيدة من تعيش حلمها الجميل بأن ولدها مازال على قيد الحياة، هناك أخريات لكنهن يعترفن بشهادة أبنائهن ويفتخرن بذلك..
(بشرى حياة) كانت لها هذه الجولة تنقل من خلالها صلابة المرأة التي قدمت ولدها شهيدا للوطن ليحيا بروحه داخلها دون جسد..
عيد البواسل
تحت تلك القباب نستحضر كل هم وغم نرفع أيدينا والأماني خفية ندعوا لمن نحب ونرجوا لهم الطمأنينة.. دعوة أطلقتها أم الشهيد فارس الكريطي التي اعتادت في فجر العيد الذهاب الى ضريحي الامام الحسين واخيه العباس عليهما السلام ثم تتجه الى قبر ولدها فارس الذي استشهد في معارك تحرير جرف النصر، تصف لنا ام فارس عيدها قائلة: "انه عيد البواسل، إن كل نفس ذائقة الموت مهما اطال الله بعمرنا, وقد اختاره الله ان يكون شهيدا افتخر به وهذا قد كان مبتغاه حينما لبى نداء المرجعية الرشيدة, فهنيئا له لما تمناه".
وأضافت: بكيت كثيرا وبقيت لسنوات أتشح بالسواد, حتى زارني في المنام يحمل بيده ثوب كانت ألوانه زاهية ناوله أياي وهو يبتسم لي, ثم مضى ومن يومها لم ارتدي السواد وواظبت على زيارة قبره بين حين وآخر, وما يحز في نفسي اني حضرت مأتمه بدل أن يحمل هو نعشي فحينما كان صغيرا كنت دائما ما اردد أريدك لكبري تكون ذخري وسندي لآخر يوم بعمري".
ختمت حديثها: "لربما لولا ما قدمه ولدي وغيره من البواسل لكنا لم نعش أجواء العيد اليوم نحن وأبنائهم, وبرغم ألم فراقهم إلا إن هذا العيد هو عيدهم حينما نالوا الشهادة ليكونوا بجوار من هو أرحم منا جميعا, وعيد سعيد وأعاده الله علينا باليمن والبركة".
ابني لم يمت
وبكلمات لا تخلو من ألم قد اعتلى وجهها الحزين وبصوت ملأ بغصة الحنين وعينين ملأتهما الدموع تهمس أم الشهيد عباس كريم قائلة: "ابني لم يمت مازال هنا يعيش مع كل نفس أتنفسه, أرى صورته في وجه أطفاله الأربعة أشم رائحته بهم حينما أضمهم لصدري, اختار طريق الشهادة وقد حظى بها إلا انه تركني بين ألم الحاضر وذكراه في الماضي, ما زلت اذكر اخر جملة قالها لي (عندما يتألم الوطن تصير أوجاعنا صغيرة أمامه يا امي, ويجدر بنا ان نرفعها عن كاهله).
(لقد كنت انتقد كثيرا تلك النسوة التي يتعالى صراخها في المآتم فصوت المرأة عورة وهذا لا يجوز) هذا ما استهلت به ام الشهيدين سلام وحسنين حديثها ثم استطرقت قائلة: "حينما وصلني نبأ استشهاد ابني الصغير حسنين أصبت بمرض السكري وكان نحيبي يملأ البيت, حتى توالت الأيام وعدت لسجيتي وتقبلت أمر الله حينما نقلته ملائكة الرحمن شهيدا لجوار خالقه".
وتابعت: "وحينما ابلغوني باستشهاد ابني البكر سلام انطفأ ضوء عيني ورحت اعدو في البيت أشبه بالمجنونة وأنا اصرخ بصوت يسمعه كل مار وجار, فقد أفقدتني الفاجعة الشعور، كانت صرخاتي تنطلق بدون دراية مني, فحينما حملوه على النعش شهيدا انكسر ظهري، كان هو عكازي الذي اتكأ عليه بعد رحيل والده".
واصلت حديثها قائلة: "وبعد مضي شهور تحولت إلى سنوات أفقت من غيبوبة حزني وعلقت صور ولداي بكل شارع وزقاق ليشار لصورهم بالبنان بأن هؤلاء من دفعوا دمائهم من اجل أن نحيا نحن, وتبدل إحساس الحزن الذي اعتراني على حين غرة إلى العز والفخر لأنني قدمتهما قربانا للوطن بعدما لبيا نداء المرجعية".
أمنية أم
فيما تحدثت أم الشهيد أنور كريم قائلة: "بقت ثيابه في خزانته لهذه الساعة, بعدما استنزف دمه الطاهر في مجزرة سبايكر, ما زلت أرتب حجرته وانفض عنها الغبار إن اعتلاها, ومازالت مغلقة لا يدخلها احد فقد جهزها لعروسه التي كان يروم الزواج بها إلا انه ذهب ولم يعد, أمنيتي أن أجد له جثمان أواريه في قبره الذي عزم والده على تشييده خاليا بعد ان مضى أربع سنوات على استشهاده, لم أتصور أن يزف إلى الشهادة بدل عرسه, كان ومازال معنا بذكراه وبرغم فراقه الذي ينكأ قلبي إلا انه حظي بميتة ترفع الرأس, فالشهادة لا ينالها إلا ذو حظ عظيم".
عيدهم الأغر
قد قذفت بهن الأيام واستفقن على واقع مرير, لربما أرهقتهن الحياة واستسلمن لرياح اليأس إلا إن هناك ما يثلج صدورهن بكلمات دافئة.. كـ أهلا بأم الشهيد..
اطمأني ايتها الصبورة اليوم هو عيدهم فحينما تتجولين بين المقابر وانت ترشين ماء الورد وتشعلي اعواد البخور والشموع اعلمي انك تنقلين للعالم الذي سن اشرعة الارهاب على بلد المقدسات رسالتك التي تكسر خفايا غلّهم الدفين والذي استكان في غياهب قلوبهم المعتمة حينما استباحوا دماء الأبرياء من الشيوخ والنساء والاطفال ليس في بلدنا فقط بل في كل بلدان العالم اذ دخلوا قعور بيوتهم وانتهكوا حرمة ما حرمه الله بإسم الدين والإنسانية, إن هذا هو عيدهم الأغر فلا تحزني ولا تذرفي الدموع أيتها الحرائر يا من أنجبتن النجباء، تحية اجلال لك ولما قدمه فقيدك الشهيد.
اضافةتعليق
التعليقات