استوقفتني حكمة الامام علي بن أبي طالب عليه السلام كثيراً وهي "الفقر الموت الأكبر".
عند التمعن جيداً في عمق هذه الجملة نجد لها زوايا جداً واسعة ومتشابكة، فالفقر ليس موت فقط بل الموت الأكبر ولكن كيف ذلك!.
ماهو الفقر؟
الفقر له معاني ومفاهيم عديدة ليس بالضرورة أن يكون مادي، هو ببساطة فقدان أو سلب أبسط الحقوق الانسانية بكل قهر واضطهاد، ولكن انحصر المفهوم العام للفقر بالمال والمادة.
الفقر يعد من أشرس التحديات التي تواجه البشرية على مر التاريخ والمعركة غير عادلة معه، وعند اجتماع أركانه مع الأمية والمرض وانعدام الأمان يكون سلاح مدمر للبشرية والانسانية.
الفقر يسلب الاستقرار والأمان والانتماء، يدفع الانسان للتخلي عن هويته ووطنه وأهله وجذوره
ليبحث في مكان جديد عن نقطة الصفر ليبدأ منها رحلة الاغتراب.
عندما بدأت بتوزيع الاستبيان الذي قمت بطباعته بمركز عملي على الموظفين الوافدين لمعرفة الرابط بين الفقر والاغتراب واسبابه والحلول، تبادلت اطراف الحديث مع البعض وكانت منهم
(رشيدة) عاملة النظافة.
تقول رشيدة:
"الفقر اساس كل مشكلة! اني اشتاق لعائلتي وطفلي الصغير، لقد تركته بسبب الفقر وهو في أشد الحاجة لي".
هنا لمعت عيناها بالدموع واكملت قائلة:
"هل تعلمين كم عمر طفلي عندما تركته؟ انه فقط يبلغ من العمر ثلاثة أشهر! ولكن ماذا أفعل؟ لا أريد أن يكون مثلي بالمستقبل ويترك اطفاله، أريد ان اوفر له كل مايحتاج ويكون في أمان من الفقر".
أما فرقان المندوب فله حكاية حزينة أخرى:
"أنا الأخ الأكبر، توفى والدي وتركنا أنا واخوتي الصغار دون معيل ووالدتي لا تستطيع العمل وأخوتي يحتاجون للمال، فأنا متعلم ولكن لا توجد فرص عمل في بلدي توفر لنا المعيشة الجيدة بل هي معدومة وها انا اعمل مندوب بسيط لأوفر لهم مايحتاجون".
ثم سكت قليلاً قبل أن يكمل:
"الفقر جعلني أترك أخوتي الصغار وأمي المسنة، أن انحرم من تكوين أسرة وأرى أطفالي، كيف وأنا لدي مسئولية عظيمة جداً، لا أريد الفقر أن يتمكن منهم كما تمكن مني".
تتعدد القصص والبطل الرئيسي هو (الفقر)..
وعندما عدت لجمع الاستبيان وفرز النتائج كانت الصدمة أكبر، أغلب الاجابات انحصرت بأن الفقر هو السبب وراء كل مغترب ولو وجدت أسباب أخرى ولكن هو من كان له نصيب الأسد، حيث بلغ متوسط السنوات للمغتربين ما بين ١٠ إلى ٤٠ سنة بعيداً عن الوطن بسبب الفقر وعدم وجود فرص عمل، أي أنه قضى أكثر من نصف عمره غريب بعيد عن أهله ووطنه وأطفاله، أما بالنسبة إلى مدى تحول حياته للأفضل عند العودة للوطن كانت الأغلبية يائسة أو دون إجابة.
وأما هل تنصح أحدهم بالاغتراب كانت الاجابة الساحقة هي (أبداً)، أما اجابة السؤال الأخير عن ما اذا زالت المشكلة الرئيسية لاغترابك هل تعود للوطن كانت (نعم وفوراً)، إن أبرز المشاكل التي تواجه المغترب هي الحنين للأهل والوطن وعدم الاستقرار والعنصرية وقوانين العمل الصارمة!.
إذاً لحل مشكلة واحدة تتولد عدة مشاكل أخرى لتكون دائرة محكمة من الضياع والألم.
اذاً ماهو الحل؟
الحلول كما يراها السيد مرتضى الحسيني الشيرازي في كتابه "استراتيجية مكافحة الفقر" مقنعة ومجدية وهي باختصار كما وضح سماحته:
"الحلول الاستراتيجية لمكافحة الفقر، الالتزام بإتباع حكمة الله في الكون، ترشيد الإنفاق، الضمان الاجتماعي، التوازن بين الريف والحضر في التخطيط الاقتصادي، التكافل الاجتماعي، تكريس مبدأ المسائلة والمحاسبة، تنشيط حركة الاموال والغاء التكنيز، تقليص ساعات العمل، المرونة في الضرائب، توفير الحريات، محاربة كافة عوامل الفقر، الحلول الاخلاقية، التقوى، السهولة، كن ترابياً، كن صادقاً، الإنصاف، تجنب الربا والبخس، النزاهة، الصدقة، صلة الارحام، لا لكثرة الموظفين، لا لسوء التوزيع، لا للمقامرة، لا للفساد المالي، لا للاحتكار، لا للربا، لا للاسراف والتبذير. وغيرها"..
ويرى بعض الخبراء أن الحلول تكمن في عدة نقاط منها:
١- التوعية العامة والإرشاد بالسلوك الاستهلاكي.
٢- تأهيل بعض الشباب لسوق العمل بإعداد برامج تدريبية وتأهيلية.
٣- إيجاد فرص وظيفية للعاطلين عن العمل.
٤- التنسيق مع الجهات المعنية مثل الدولة ومكتب العمل ومؤسسات القطاع الخاص للتوظيف السريع.
٥- تمويل المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر.
٦- تشجيع بعض الأسر على برامج الأسر المنتجة من خلال حرف ومهن بسيطة.
٧- إيجاد أدوات مصرفية لإقراض الأسر المنتجة.
٨- التشجيع على التعليم وتوفير التعليم المجاني.
علماً أن لو توفرت تلك الحلول أو أغلبها لما كان للفقر والفاقة وجود بالمجتمع.
الفقر هو الموت الذي يسلب روح الانسانية.. والاستقرار والأمان والترابط الأسري والعدالة..
لذلك فهو كما قال الامام علي بن أبي طالب:
"الفقر الموت الأكبر" حقاً.
اضافةتعليق
التعليقات