يحدث في هذا البعد من الكون الشاسع أن يتحول سيد المخلوقات إلى عبدٍ ذليلٍ تحتَ سياط التوحش والإستغلال من ذات أبناء جنسه، يحدث أن يتحول سفاحاً للحياة، عدواً لها، ويحدث أن يؤازر رسول الخراب لخدمة الرب(تقليد)، والرب(عادة)، وغيرهما من الأرباب؛ من دون الله، أو ليتحول هو إلى شيطانِ إنسٍ مريدٍ، غاوٍ على دربِّ الرتابةِ والتكرارِ يخشى التغيير ويخافه كما يخشى الظل النور!.
الخراب ليس ما نراه اليوم من فقر، وجوع، وجهل، قتل وتهجير، وتفجير، وإستباحة، وتذلل، وخوف، وقلة ثقة بالنفس، وبقدرتها على مجابهة الظلم والعدو مهما كان، إنه الأعمق من ذلك والأكثر تأثيراً، ذلك الذي يسعى إلى طمرِّ منابع الحياة، ليُطمَرَ بذلك الإنسان فينا، ويوأدَ حياً، فلا نرى منه سوى شبح باهت، لا رجاء منه ولا خير فيه، ذلك أنه يسعى إلى طمر الأمومة!.
تلك المهمة الخطيرة التي تضع الإنسانية على شفير الهاوية، أو على قمة الحياة؛ والتي ينبغي لها أن تقدس حقاً وفعلاً في المجتمع الإنساني، لمصلحته على الأقل، ولتبجيل ذلك الكائن القائم بها، ليؤديها على أكمل وجه، فمن المعلوم أن الإنسان يكتسب غالب سماته النفسية والأخلاقية، طباعه وميوله، من الفترة التي يكون فيها طفلاً متعلقاً بأذيال أمه، فكيف بها وهي عبدٌ مهانٌ أن تربي كائناً آخراً على الحرية والثقة والقوة؟، وكيف لها ان تنشئ أبَّ المستقبل القويم؟، وهل للعبيد من مستقبل قويم؟!.
لن أتحدث عن الحقوق كاملة كإنسان، بل عن الحقوق كإمرأة على الأقل، فالنسف لا يأتي من ضربة واحدة.
في مجتمع منغلق في دائرته على نفسه، يدور فيها كما ثورُ الساقيةِ الأعمى أو المستعمى، يحدث كل ما ذكر آنفاً، حيث سيد الكائنات عبدٌ ذليلٌ أمام أربابه، آلةٌ لا تتحرك سوى بأمرهم، ولماذا؟ لتستعبد إبن جنسها الآخر، ليكون أضعف وأقل حيلة، فلا يقف بعينِ الربِّ(مجتمع)، ولا بعينِ دينه المصدّر لثقافة الموت بأشكاله ومذاهبه، المعادي للحياة عدوه الوحيد المُنظَرِ ليوم البعث!. نعم منظرة ومؤجلة، فكلُّ فعلٍ يؤدي إلى الحياة، أو يدل عليها أو على شكلٍ من أشكال السعادة والفرحة والعيش، باتَ اليوم مؤجلاً هنا، وغير ذي داع أو طعم، وترانا لا نعدوا كوننا جثثاً هائمة، تتلاطم لا تلوي، بحثاً عن حقيقة تشفينا، دون جدوى كالممسوس. وماذا بعد سبي الأنثى، وإستباحتها في جوانب عدة، يمكن أن يحصل للمجتمع الإنساني ليجعله أكثر خراباً، وأكثر تعطشاً للقتل والفتك، وأعلى ثقافة في سلم الموت؟ ماذا والطفل ينشأ في أحضان امرأة مهانة من أقرب الأقارب (أبيه) أو أهل أبيه؟ فقط لأنها قاصر أو لأنها (فصلية) دية لعمه أو إبن عمومته المقتول من أهلها؟ كيف له أن يستشعر الأمان ولذة حنانها كأم، وهو يرى ويسمع سيرتها مع أبيه الملطخة بالدم والعار؟ أو يراها موسومة بالقصور كونها لا قاصر في العمر فقط، بل بالمهام الواجب عليها القيام بها كزوجة وكأم، كيف له أن يحترمها يوماً؟ وهو الشاهد على كم الضرب والإهانة والتعنيف، التي إحتملتها صاغرة، مما أحالها في نظره إلى كائن واجب الشحن بالإذلال، ليؤدي مهامه على أكمل وجه، كيف له أن يفخر بها ويعتز أو يُعزها يوماً؟ وهي الذليلة المستخدمة في المنزل، شأنها شأن العبيد والسبايا، كيف له أن يكون أباً أو زوجاً لكائن مثلها؟ وكيف نتوقع منه أن يتصرف في هذه الأدوار؟ كيف لرجل نشأ قرب كائن مستضعف ناقص منتقص، في عرف محيطه، يشمأز منه الغادي والرائح ويهينه، ويعنفه لسبب أو بدون سبب، أن يكون رجلاً حراً مبدعاً، مخلصاً صاحب قضية ومبدء، عطوفاً رحيماً ومتزناً؟.
بل كيف يجابه الظلم؟ وقد تربى في بيته على إنها عادة واجبة تجاه الضعيف، وشيء لا بدَّ منه لتقويم المقصر، وإن لم يقصر، كيف نطلب منه أن يكون عادلاً؟ وهو الذي لم يعرف معنى العدل في مسكنه الأول، كيف لنا أن نطلب منه ثورة أو تغيير؟ وهو الذي لم يتعلم من المظلومة في عقر دارها، سوى التلويح تفادياً للطمات المتكررة، كيف يتكلم وقد نشأ على ثقافة الصمت؟ كيف يفكر؟ وقد تعلم أن هناك من يفكر عنه، ويمسك زمام الأمر، ويديره، وأن عليه أنْ يرضى بالإدارة تلك، صحيحة كانت أم خاطئة، ناجحة أم غير.
هذه حقيقة إنساننا اليوم، محض كائن مخدر بالصبر، مغمم العقل، يدور في ساقية الحياة، دون جدوى مكبل إلى ساقيته تلك بلجام العادة!.
هذه الأمومة مسبية لدى أعرافٍ نقلها الإنسان معه من بدائيته وبداوته، ولم يجدِ معها وعظُ نبيٍّ، ولا نُذُرِ كتابٍ، ولا أمر ربٍّ، فكل ما سلف، قد تم وضعه في صندوق مزخرف من الخطب الكاذبة، محكم الإغلاق، ثُقِّل غطاؤه بتمثال مصغر للإله (تقاليد)!.
المشكلة أخلاقية تربوية، أكثر من كونها محض مشكلة هضم للحقوق وظلم وتعدي، فهي تعتمد على بناء فرد يعتمد عليه بناء أفراد في المستقبل، وبناء أمة، فلو أردنا إصلاحاً، فعلينا بأن ننشئ الأنثى على الثقة والقوة والإحترام، أن نربيها على القدرة على الأختيار، وتحمل نتائج إختياراتها، أن نعلمها حقوقها ووجوب مطالبتها بها، أن نربيها على تحمل مسؤولياتها وأدوارها، وعلى ضرورة ثورتها ضد الصمت والرضوخ للظلم والذل، أن نمنع عنها قانوناً عرفياً، مصطبغاً بالدين المزيف، يأدُ حريتها وكيانها وطفولتها، ويمنعها من النمو الصحيح المتكامل، أن نمنع عنها قانوناً قبلياً يعاملها كشيء لا كشخص، أن نكرمها لتكرمنا وتكرم أبناءنا، نصلحها ونصلح طريقة حياتها، لنصلح مجتمعنا، ونقوّم أمتنا.
اضافةتعليق
التعليقات