منذ سنوات وأنا أنتظر ذلك الحلم، الذي كنت أحسبه بعيد المنال، أعد الشهور، الأسابيع، الأيام، حتى الساعات، الدقائق والثوان صرت أحسب لها ألف حساب .
كلما دق ناقوس يوم جديد بلا لقاء! يختلج قلبي هما..
أنا فاطمة، فتاة تبلغ من العمر خمس وعشرون عاما، لم أزر الحسين قط.. بسبب بعد المسافات ولكوني أعيش في بلد مبغض لمحمد وآل محمد.. لكنني لم أفقد الأمل.. فالحسين بالقلوب وشوقها عليم..
كل محرم يمر ارتب فيه أمنياتي وعلى رأسها، المشي إلى الحبيب أبا عبد الله، لكن في كل مرة لم يكن لي نصيب، وفي يوم العاشر من شهر صفر الخير، بينما كنت ممسكة بهاتفي، وعيني، قلبي روحي، وعقلي، كلها مع المشاة، أتمتم بكلمات ممزوجة بدموع، وأقول من باب التمني:
لو زرعوني ببابك وردا؟
لا فهو كثير، لو وضعوني ذرة تراب، تسحقها أقدام زائريك .
لم يقطع شرود ذهني إلا صوت اخي: فاطمة فاطمة! مسحت دموعي، وقلت له: ماذا هناك؟
خذي هذا الظرف وافتحيه، اخذته مستغربة! وإذا بي أرى أمر غريب! تذكرة طيران لمطار النجف الدولي! يا الهي وماذا بعد إلى كربلاء؟ قال نعم، ماذا أفعل حينها، سجدت لله حامدة، للحسين شاكرة، ركضت مهرولة، لأرتب مااحتاجه من سفرتي، دفتر ذكرياتي وقلمي لطالما شاركتموني شوقي وحنيني لابد وان نكمل طريقنا معا.
ما هي إلا سويعات تفصلنا عن نجف الأمير، كم أشعر بأن الوقت بطيء، انطلقت بنا الطائرة وطارت قبلها روحي، وصلنا! اتجهنا مباشرة لزيارة المولى علي، لا أريد الراحة، أريد أن أذهب مباشرة لطريق يا حسين .
إلتحقت بالركب الحسيني، الركب المقدس، جميع العاشقين والمحبين هناك، القصائد التي تملأ المكان، سمعت بيت من قصيدة أحد خدام الحسين :
(مِن ذاك أربعين الرآح لليوّم، نحسِب لأربَعينك ساعه ساعهَ) كانت كالملح على الجرح .
نسيم الصباح، روائح الطعام المختلفة، دخان الشاي ذو الطعم العجيب، الغبار المتطاير من أقدام الزائرين، وأكثر ما أضاف للجمال جمال، المطر الذي نزل في تلك الليلة، صرت أشمه بكل ما أوتيت من قدرة، إنها رائحة الجنة.
لا زلت مستمرة في المسير، رأيت الجميع، (الشياب)، الشباب، الأطفال، حتى الرضع..
كلما مشيت خطوة رأيت مجموعة من الأطفال ينادون بالتلبية (لبيك يا حسين).. وآخرون يحملون أطباق الطعام على رأسهم (تفضل يزاير).. إنهم بذور غرسها الحسين.
أما المنظر الآخر، كان هناك ولد يبلغ ما يقارب السبع سنوات، يقف في باب الموكب، يتوسل بالزائرين أن يدخلوا ليأكلوا أو يبيتوا ليلة، رجع إلى والده (بابا محد إجى وياي)، فرد عليه: (ميخالف بابا اتوسل بيهم حتى لو تبوس إيدهم).. لم أتعجب من ذلك، لأنه الحسين وكفى ..
جلست لأستريح بعض الشيء، فسمعت (والمهدي يتصدق بإسمكم نيته دفع البلا)، فتذكرت صاحب الزمان، يا ترى أين أنت الآن يا مولاي؟ هل هنا مع الزائرين، تسير ماشيا، حافي القدمين، باكيا بدل الدموع دما، لجدك الحسين، رأينا الجميع إلا أنت، أو لربما رأيناك لكننا لم نعرفك من اسوداد وجوهنا بالذنوب، المهم أن تحيط بنا وتحفنا برعايتك..
قمت لإكمال المسير، لم يتبقَ الا القليل، وأصل إلى الجنة، فهذا العطاء الذي وُفقتَ له ما كان له أن يصل لي من غير معونة وهبات وقابليات منحني الحسين إياها.. وبفضل من المولى عز وجل "بل الله يمن عليكم" .
بينما أنا أردد كلماتي تلك، رفعت رأسي واذا بي أرى تلك القبة الذهبية، لاح لي نورها.. حان اللقاء... يا طبيب :
وعلى أعتابِك تذوب أوجاعي
راسمة قطرتين على خدي
قطرةٌ نزلت لفجيعتك العظمى
وأخرى اختارتْ الاشتياق لحَضْنِ شباكك ومابين هذه وتلك كانت صرختي:
(لبيك يا حسين، لبيك يا حسين)..
وها أنا الآن ممسكة بقلمي لأبدأ بصفحة جديدة في دفتري تحت عنوان: (مذكرات كربلائية)..
اضافةتعليق
التعليقات