يُعد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) واحداً من أهم الشخصيات الإنسانية الفذة، التي تركت تراثاً ثرياً، حظي بعناية بالغة من الباحثين على مر العصور، فتناولوا سيرته وكلامه بالبحث والتدقيق، وكان تراثه واحداً من أكثر النصوص عناية بعد القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، بما حواه من فكر متجدد ونظم وقوانين، فضلاً عن الجوانب البلاغية والأدبية في كلامه (عليه السلام)، وهو سيد البلغاء والمتكلمين. وهو في كل ذلك يستلهم من كتاب الله تعالى والسيرة النبوية، فقد كان شديد العناية بالقرآن وأعلم الناس بعلومه وأسراره، إذ عاش مع القرآن، وحمل نوره في كل حياته علماً وأخلاقاً ونهج حياة .
على الرغم من أن التنمية عموماً، والمستدامة على نحو خاص، هي من الاصطلاحات المعاصرة، إلا أننا نجد مضمونها موجوداً في مفهوم العمارة الذي ذكره الإمام علي في رفع مستوى الإنتاج إلى أقصى حد، عن عهده لمالك الأشتر: فالعمارة عند الامام تعني رفع مستوى الإنتاج الى أقصى حد، عن طريق العناية بقطاعات الاقتصاد الثلاثة الزراعة والصناعة والتجارة. وتتطلب العمارة إلى جانب ذلك عند الإمام مستوى الاستهلاك المرتفع لجميع أفراد المجتمع، سواء منهم من لديه القدرة على تحقيق ذلك لنفسه، أم من يعجز عن ذلك، فإن على الدولة أن تقوم بتحقيق هذا المستوى للصنف الثاني من الناس.
يعد مصطلح العمارة من أصدق المصطلحات تعبيراً عن التنمية، إذ يحمل مضمون التنمية الاقتصادية، وقد يزيد عنه، فهو نهوض في مختلف مجالات الحياة الإنسانية، وبصفة أولية نهوض في جوانب التنمية الاقتصادية بمعناها المتعارف عليه والذي لا يخرج عن تعظيم عمليات الإنتاج المختلفة.
القضاء على الفقر
ما يزال الفقر واحداً من المشكلات التي تؤرّق صناع القرار عبر العالم، وهذه المشكلة تتباين من حيث المدى والشمول ونطاق التأثيرات بحسب أوضاع كل بلد، وخصائص كل مجتمع، لكنها في البلدان النامية تُعدّ أكثر عمقاً وتأثيراً في أوضاع الناس، إذ نجد أنَّ 10 % من سكانها ما يزالون يعيشون وأسرهم على أقل من 1.90 دولار يومياً، وعلى الرغم من التقدم المحرز في عدد من الدول ولا سيّما في شرق آسيا، ما يزال حوالي 42% من سكان إفريقيا جنوب الصحراء يعيشون تحت خط الفقر المتدنّي، هذا الذي بالكاد يقترب من تأمين الاحتياجات الغذائية التي تضمن البقاء على قيد الحياة.
ويضع الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة رقماً طموحاً جداً يتطلع عن طريقه إيجاد عالم خالٍ من الفقر المدقع بحلول عام 2030، عبر اتخاذ مجموعة من التدابير منها توفير الحماية الاجتماعية للجميع، والانتفاع الكفوء من الأراضي والموارد الاقتصادية، والحد من تأثر السكان بالكوارث المتصلة بالتغير المناخي والكوارث الاجتماعية والاقتصادية.
فضلاً عما يتضمنه معنى الاستدامة (Sustainability) الذي يُشير إلى توفير حاجات الجيل الحاضر، من دون المساومة على مقدرة الأجيال القادمة في أن تتحرر من الفقر والحرمان وتمارس قدراتها الأساسية، وتعني تحقيق التوازن بين النظم البيئية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد حقق الإمامُ هدف القضاء على الفقر في دولته بفضل السياسات التي طبقها، التي تقوم على العدل والمساواة، إذ إنَّ مسألة الفقر قد انتهت في عهد الإمام علي (عليه السلام)، إذ لم تذكر المصادر التاريخية وجود فقراء في عهده.
في معنى الفقر
توجد مفهومات عدة للفقر بحسب زاوية النظر إليه، منها:
هناك من يرى أن الفقر هو العجز عن إشباع الحاجات الأساسية للأفراد، وبهذا المعنى فالفقير هو الشخص الذي لا يستطيع تأمين احتياجاته الأساسية من مأكل وملبس ومسكن بشكل كافٍ، وهو ما يعبر عنه بمستوى الكفاف. وعلى مستوى الفقه الإسلامي فالفقير هو من له بلغة في العيش، وقد انقسم أهل اللغة في تحديد درجة الفقر والمسكنة، فقد ذهب الأصمعي والأصبهاني إلى أنَّ الفقير أشدّ حالاً من المسكين، مستدلين بقوله عزّ وجل: (لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.
مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ، أي مسكيناً ذا فقر، الفقير هو الشخص الذي يُعاني من حاجة مالية في حياته ومعاشه مع أنه يعمل ويكتسب، لكنه لا يسأل أحداً مطلقاً برغم حاجته لعفّته وعزة نفسه. أما المسكين فهو أشدّ حاجة من الفقير، وهو العاجز عن العمل، فهو مضطر لأن يستعطي الناس ويسألهم. والدليل على ذلك أن الأصل اللغوي لكلمة مسكين مأخوذ من مادة السكون، لأن المسكين لشدة فقره كأنه سكن وأخلد إلى الأرض.
وهناك من يرى وأما الغني فهو من له أنَّ الفقر هو عدم امتلاك شيء، فالفقير هو المعدم، ملكية منقولة وغير منقولة تعينه، وبهذا المعنى تُصبح الملكية مصدر الدخل الأوحد، ومن لا يملكون أصولاً، لا تتوفر لديهم أسباب لكسب الرزق.
وفي العصر الحديث أصبح الرأي السائد حتى وقت قريب هو ربط الفقر بمستوى معين من الدخل (أو الإنفاق)، فانخفاض الدخل إلى ما دون حد ادنى معين وطنياً أو دولياً، يعني وقوع فئة من الأفراد في براثن الفقر، وفي عام 1970 حدد البنك الدولي قيمة الدخل بمبلغ 300 دولار سنوياً، محتسباً بتعادل القوة الشرائية لحل مشكلة التفاوت بمستويات المعيشة بين البلدان، وتم تغيير هذه القيمة مع تغير قيمة الدولار.
وقد ظهر في السنوات القليلة الماضية مفهوم يوسع من نطاق الحاجات التي ينبغي توافرها للعيش الكريم، فظهر مفهوم الفقر متعدد الأبعاد الذي لا يكتفي بمعيار الدخل حاكماً في تحديد الفقراء عن غيرهم، منطلقاً من مفهوم حقوق الإنسان، وتعدد الحاجات وضرورتها لحياة كريمة.
وفي الإسلام يكتسب الفقر أبعاداً أخرى أوسع من مجرد انخفاض الدخل أو إشباع الحاجات الأساسية، إذ يُشير مفهوم حدّ الكفاية إلى النفقات الضرورية التي تكفل كفاية الإنسان واكتفاءه على نحو متوسط، تراعى فيه درجته الاجتماعية ودرجة رخاء وغنى المجتمع الذي يعيش فيه .
وقد عبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حد الكفاية بقوله إنه توفير القوام من العيش، أي ما به تستقيم حياة الفرد ويصلح أمره، ويكون ذلك بإشباع احتياجاته التي تجعله يعيش في مستوى المعيشة السائد. فقد أعطت الشريعة الإسلامية لكل فرد الحق في أن يتمتع بمستوى كريم من العيش يتناسب مع ظروف الدولة وإمكانياتها، بحيث تحقق له حدّ الكفاية بكل ما يشتمل عليه من الضروريات والكماليات التي لا تقف إلا عند حد الاعتدال وعدم الإسراف، ويعلو هذا الحد بمقدار ما يتلاءم مع تطور المجتمع وتقدمه.
وتأسيساً على ما تقدم، فالفقر يرتبط بعدم القدرة على الحصول على الاحتياجات الأساسية لحياة كريمة لعدم التمكن من الوصول إلى الموارد الاقتصادية التي تضمن للفقراء العيش الكريم، وإن كان المظهر الأبرز هو انخفاض الدخل أو انعدامه لأسباب مختلفة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية.
وقد تظهر في حياة الأفراد أحداث وظروف تضعهم في إطار الفقر والمسكنة، قال الإمام علي (ع) :
((ثلاثة من أعظم البلاء، كثرة العائلة، وغلبة الدين، ودوام المرض)).
وهذه الأسباب في الاصطلاح المعاصر :
ارتفاع معدل الإعالة الاقتصادية والعمرية.
تراكم المديونية.
المرض والعوق.
وفي جميع هذه الحالات لا يستطيع الفرد أن ينهض بأعباء معيشته، ويقع في براثن الفقر، بسبب الظروف الاستثنائية القاسية التي يعاني منها هو وأسرته.
اضافةتعليق
التعليقات