قال تعالى: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ ۖ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}، الملفت في هذه الآية ختامها، إذ ختم النبي خطابه لقومه بنفي الظلم عن نفسه، والظلم يُعرف بأنه "وضع الشي في غير موضعه".
وهذه الالتفاتة القرآنية جدًا مهمة فهي تعالج لنا مشكلة عامة تتشعب من أصل المشكلة التي وقع بها هؤلاء، وفخ قد يقع به الرساليين والدعاة إلى الله تعالى مع أقوامهم؛ فيسقطون من سمو مقام الدُعاة إلى قعر الأدعياء، ويتحول أحدهم من الأخذ بأيدي الناس للهداية إلى الأخذ بهم إلى الضلالة، بدل أن يعلقهم بالله تعالى وأوليائه المصطفين إلى تعليقهم بشخصه ومنهجه ورؤاه وتوجهاته، فهم لن يروا إلى ما يرى ولن يجرؤ على انتقاده او تقييمه ليس خوفًا بل ذوباناً به، فلا ينظرون له إلا بنظرة ملائكية مثالية!!
فالنبي (عليه السلام) كي لا يكون من الداخلين بصنف الظالمين بل بصنف المرحومين، عمل على أمرين هما:
أولاً : الخروج من حوله وقوته إلى حول وقوة الله تعالى من ناحية خطابه لنفسه فلا يكون بذلك ظالمًا لنفسه- أي لا يضعها في غير موضعها- فمحله هو مخلوق وعبد مكلف بمهمة التبليغ من خالقه ومعبوده، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا إلا بمدد وتوفيق الله عز وجل.
ثانيًا: نفى عن نفسه سمة التقديس التي قد توصل قومه إلى اتخاذه ربًا من دون الله تعالى- وبذلك أيضًا لا يكون ظالمًا لكن لقومه بأن يضعهم في مسار عبودية وطاعة غير الله تعالى- فالنفس البشرية عندما تنجذب وتحب وتتعلق بشخصية تراها بعين المثالية والتقديس هي عندئذ ستخرج من إطار عبودية الله تعالى إلى عبودية مخلوق من خلق الله تعالى.
وهذا اخطر ما قد يواجهه الداعي او الرسالي إذا ما نظر اليه مجتمعه ومحبيه بهذه النظرة، وهذه الآية تعطي علاج لهذا الخطر، وكيف على كل رسالي تصحيحه وهو أن يكون صارما وواضحا في تبيان مقامه ودوره وعلاقته بهم، بل وعدم التقبل لكل تعظيم أو تمجيد او القاب تضفي له هالة معينة، والإنسان الرسالي لابد أن يكون بصيرًا بنفسه فيما إذا كانت توصل الآخرين لذلك أم لا.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام): [خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) على أصحابه وهو راكب، فمشوا خلفه، فالتفت إليهم، فقال: لكم حاجة؟ فقالوا: لا، يا أمير المؤمنين، ولكنا نحب أن نمشي معك، فقال لهم: انصرفوا؛ فإن مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب، ومذلة للماشي.
قال: وركب مرة أخرى فمشوا خلفه، فقال: انصرفوا؛ فإن خفق النعال خلف أعقاب الرجال مفسدة لقلوب النوكى] (١)، وهذا حديث واضح وصريح لخطورة هذا الأمر على الداعي والمحبين لهذا الداعي.
فمعرفة النفس والرسالة التي كلف به هذا الداعي والرسالي تثمر قوة الشخصية والثقة والرؤية الواضحة لتكليف، وهذا ما نستشفه في هذه الاية، فهو عليه السلام نفى عن نفسه تلك التصورات بأن يكون مالك خزائن الله تعالى إلا بما يجود به عليه مولاه، او إنه صاحب العلم بالغيب من دون تعليم منه جل وعلا، او صاحب ملك وسلطان إلا بما يمكنه به مولاه.
ثم انتقل بخطابه إلى نفي تصور خاطيء آخر عمن يريد أن يتبع هدى الله تعالى، بقوله {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ }، فكون النبي ليس من أهل الغنى المادي أو طلاب الدنيا ومن أهل الزهد هذا لا يعني أن من يتبعه عليه أن يكون كذلك، ومن يتبع الرسول لا يعني أنه لابد أن يكون فقير اليد ولن يتغير حاله.
وهذه نقطة جدًا حساسة عندهم، فهم كانوا يريدون إلهًا يغنيهم بما في الدنيا وكان مقياسهم لرسول ذلك الاله كي يتبعونه أن يرون عليه زينة الدنيا وله من متاعها ما يدخل الاطمئنان في نفوسهم أنهم لن يعيشو الفقر المادي معه، وإذ برسول فقير واتباعه من الفقراء.
النبي (عليه السلام) هنا محى هذه التصور الذي رسموه ووضح خطأ ما توقعوه عن اتباعه، إذ قال لهم إن من اتبعني لا يعني أنني أشترط عليه أن يبقى بلا غنى او حياة مرفهة هانئة ابدًا، إنما من يسعى في الدنيا يؤتى منها ممن هو أعلم بما في نفسه، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى في ذلك تنبيه وتوضيح لمن اتبع النبي من البسطاء والفقراء ، أن من علم الله تعالى أن الغنى لن يطغيه سيغنيه من فضله، وأن من يرى إن الغنى سيفسد له إيمانه سيبقيه على فقره ويغنيه بالقناعة والإيمان الذي في قلبه ، فهو العالم بما فيه صلاحهم.
وهذا هو الميزان الالهي الحق لمن اهتدى وطلب الاستقامة، فليس هناك حصر للغنى والفقر على أحد دون أخر، لذا كلا الصنفين المؤمن الغني والفقير هما على خير وقد أوتيا من الخير طالما أنهم اتبعوا النبي وهذا هو الخير الحقيقي الذي يبقى لهم يوم الحساب.
—————
اضافةتعليق
التعليقات