يُطلق الانتظار - عادةً على من يكون في حالة غير مريحة ويسعى لإيجاد وضع أحسن. فالمريض مثلاً ينتظر الشفـاء من مرضه، أو الأب ينتظر عودة ولده من السفر، فهما أي المريض والأب مشفقان؛ هذا من مرضه، وذاك من غياب ولده، فينتظران الحال الأحسن، ويسعيان من أجل ذلك بمـافي وسعهما.
كذلك - مثلاً - حال التاجر الذي يعاني الضائقة الاقتصادية وينتظر النشاط الاقتصادي. فهاتان الحالتان؛ أي الاحساس بالأزمة، والسعي نحو الأحسن، هما من الانتظار.
بناءً على ذلك، إن مسألة انتظار حكومة الحق والعدل حكومة الإمام المهدي، وظهور المصلح العالمي مركبة في الواقع من عنصرين: عنصر نفي، وعنصر إثبات؛ النفي هو الإحساس بغرابة الوضع الذي يعانيه المنتظر، الإثبات هو طلب الحال الأحسن.
وإذا قدر لهذين العنصرين أن يحلّا في روح الإنسان، فسيكونان مدعاةً إلى نوعين من الأعمال، وهذان النوعان هما:
الأول: ترك كل شكل من أشكال التعاون مع أسباب الظلم والفساد، بل عليه أن يقاومها.
الثاني: بناء الشخصية، والتحرّك الذاتي، وتهيئة الاستعدادات الجسمية والروحية والمادية والمعنوية لظهور تلك الحكومة العالمية الإنسانية.
ولو أمعنا النظر، لوجدنا أن هذين النوعين من الأعمال هما سبب اليقظة والوعي والبناء الذاتي. ومع الالتفات إلى مفهوم الانتظار الأصيل، ندرك بصورة جيدة معنى الروايات الواردة في ثواب المنتظرين وعاقبة أمرهم، وعندها نعرف لم عدت الروايات المنتظرين بحق بمنزلة من كان مع القائم تحت فسطاطه، أو تحت لوائه، أو كمن يقاتل في سبيل الله بين يديه أو كالمستشهد بين يديه، أو كالمتشحط بدمه ! إلخ....
ترى، أليست هذه التعابير تشير إلى المراحل المختلفة ودرجات الجهاد في سبيل الحق والعدل، التي تتناسب ومقدار الاستعداد ودرجة انتظار الناس؟
إن ميزان التضحية ومعيارها ليس في درجة واحدة، إذا أردنا أن نزن تضحية المجاهدين في سبيل الله، ودرجاتهم وآثار تضحياتهم، كذلك الانتظار وبناء الشخصية والاستعداد، ذلك كله ليس في درجة واحدة، وإن كان كل من هذه العناوين من حيث المقدمات والنتائج يشبه العناوين آنفة الذكر.
فكل منهما جهاد، وكل منهما استعداد وتهيؤ لبناء الذات، فمن هو تحت خيمة القائد وفي فسطاطه يعني أنه مستقر في مركز القيادة، وعند آمرية الحكومة الإسلامية فلا يمكن أن يكون إنساناً غافلاً جاهلاً، فذلك المكان ليس مكاناً لكل أحد، وإنما هو مكان من يستحقه بجدارة! كذلك الأمر عندما يقاتل المجاهد بين يدي هذا القائد أعداء حكومة العدل والصلاح، فعليه أن يكون مستعداً بشكل كامل روحياً وفكرياً وعسكرياً. فالانتظار يعني الاستعداد الكامل وإذا كنتُ ظالماً مجرماً، كيف يتسنى لي أن أنتظر من سيفه متعطش لدماء الظالمين؟!
وإذا كنتُ ملوّثاً غير نقي، كيف أنتظر ثورةً يُحرق لهبها الملوَّثين؟!
والجيش الذي ينتظر الجهاد الكبير يقوم برفع معنويات جنوده، ويلهمهم روح الثورة، ويصلح نقاط الضعف فيهم، إن كيفية الانتظار تتناسب دائماً والهدف الذي نحن، في انتظار قدوم أحد المسافرين من سفره. انتظار عودة حبيب عزيز جداً. انتظار حلول فصل اقتطاف الثمار وجني المحاصيل، هذه الأنواع من الانتظار كلّها مقرونة بنوع من الاستعداد المثمر. والآن سنتصور كيف يكون انتصار ظهور مصلح عالمي كبير، وكيف نكون بانتظار ثورة وتغيير وتحوّل واسع لم يشهد تأريخ الإنسانية مثيلاً له!
الثورة التي ليست كسائر الثورات السابقة، إذ هي غير محدودة بمنطقة ما، بل هي عامة وللجميع، وتشمل جميع شؤون الحياة والناس، فهي ثورة سياسية، ثقافية، اقتصادية، وأخلاقية. فهذه الثورة تستدعي منا:
أولاً: بناء الشخصية الفردية، إن بناء الشخصية - قبل كل شيء بحاجة إلى عناصر معدة ذات قيم إنسانية؛ ليمكن للفرد أن يتحمل العبء الثقيل الإصلاحي للعالم. كما إن انتظار المصلح العالمي، معناه الاستعداد الكامل فكرياً، وأخلاقياً، مادياً ومعنوياً، أي الاستعداد لإصلاح العالم كله. فتصوروا أن مثل هذا الاستعداد كم سيكون بناءً؟! لأن السعي في إصلاح المعمورة كلها، وإنهاء الظلم والفساد والنواقص ليس عملاً بسيطاً، ولا هو بالمزاح أو الهزل، بل الاستعداد لمثل هذا الهدف الكبير، ينبغي أن يتناسب معه، وأن يكون بسعته وعمقه.
ثانيا: بناء الشخصية،
وبناء الشخصية لمثل هذا الهدف، يستلزم الارتباط بأشد المناهج الأخلاقية والفكرية والاجتماعية أصالة وعمقاً؛ فهذا هو معنى الانتظار الواقعي ! تُرى هل يستطيع أن ينكر أحد فيقول : إن مثل هذا الانتظار لا يكون فاعلاً؟!
ثالثاً: التعاون الاجتماعي
إن المنتظرين بحق، في الوقت الذي ينبغي لهم أن يهتموا ببناء شخصيتهم، عليهم أن يراقبوا أحوال الآخرين، وأن يجدوا في إصلاحهم جدهم في إصلاح ذاتهم؛ لأن المنهج العظيم الذي ينتظرونه ليس منهجاً فردياً، بل هو منهج ينبغي أن تشترك به جماعات منظمة من أجل تحقيق هدف من هم بانتظاره .
ففي ساحة معركة واسعة تقاتل فيها مجموعة جنباً إلى جنب، لا يمكن لأحد منهم أن يغفل عن الآن بل عليه أن يشد أزرهم، ويسد الثغرة، ويُصلح نقطة إن وجدت ويرمم المواضع المتداعية، ويدعم ما ضعف منها؛ لأنه لا يمكن تطبيق مثل هذا المنهج من دون مساهمة جماعية نشيطة فعالة متسقة متناسقة !
بناءً على ذلك، فإنّ المنتظرين بحق، عليهم أن يصلحوا حالهم وعدم ذوبان المنتظرين في المحيط الفاسد، وعدم الانقياد وراء المغريات والتلوّث بها أبداً، أثر مهم من آثار الانتظار.
و توضيح ذلك: حين يعم الفساد المجتمع، أو تكون الأغلبية الساحقة منه فاسدة، قد يقع الإنسان النقي الطاهر في مأزق نفسي، أو بتعبير آخر: قد يسلك في طريق مسدود كي ييأس من الإصلاحات التي يتوخاها.
وربما يتصوّر المنتظرون أنه لا مجال للإصلاح، وأن السعي والجد للحفاظ على النقاء والطهارة وعدم التلوث، ذلك كله لا طائل تحته، أو لا جدوى منه ، فهذا اليأس أو الفشل قد يجر الإنسان نحو الفساد والاصطباغ بصبغة المجتمع الفاسد، فلا يستطيع المنتظرون عندئذ أن يحافظوا على أنفسهم باعتبارهم أقلية صالحة بين أكثرية طالحة، وسيفتضحون إن أصروا على مواصلة طريقهم وينكشفون؛ لأنهم ليسوا على شاكلة الجماعة. والشيء الوحيد الذي ينعش فيهم الأمل، ويدعوهم إلى المقاومة والتجلد وعدم الذوبان والانحلال في المحيط الفاسد، هو رجاؤهم بالإصلاح النهائي؛ فهم في هذه الحال فحسب لا يسأمون عن الجد والمثابرة، بل يواصلون طريقهـم وهو رجاؤهم بالإصلاح النهائي؛ فهم في هذه الحال فحسب لا يسأمون عن الجد والمثابرة، بل يواصلون طريقهم في سبيل المحافظة على الذات وحفظ الآخرين وإصلاحهم أيضاً.
ومن هنا، يُعد الأمل عاملاً تربوياً مهماً ومؤثراً في المنحرفين أو الفاسدين، كما أنّ الصالحين لا يستطيعون أن يواصلوا مسيرهم في المحيط الفاسد، إذا لم يكن لهم أمل بالانتصار على المفاسد والنتيجة: إن معنى انتظار ظهور المصلح، هو أن الدنيا مهما مالت نحو الفساد أكثر، كان الأمل بالظهور أكبر. والانتظار له هذا الأثر النفسي الكبير؛ فيضمن للنفوس القوة في مواجهة الأمواج والتيارات الشديدة كيلا يجرفها الفساد. إذاً، فهم يسعون أكثر للوصول إلى الهدف المنشود، وتنشد همتهم لمواجهة الفساد ومكافحته بشوق لا مثيل له.
__________________________
المصدر: كتاب العدل المنتظر، مجموعة مؤلفين.
اضافةتعليق
التعليقات