في قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُون }، يتبين لنا معيق آخر للتذكر وهو الغفلة عما فطرت عليه الخليقة من توحيد الله تعالى ذو المُلك والجلال، فهنا استخدم النبي (عليه السلام) لفظ الجلالة لا لفظ الربوبية.
فالرسالي دوره أن يَعرف أمراض مجتمعه ثم يدعوهم بما فيه دواء لعللهم، وهكذا أتت هذه الآية لإيقاظهم من غفلتهم ونسيانهم فصرحت على لسان نبيهم بهذه الحقيقة: هل يمكنكم أن تنصروني من الله تعالى الذي أمرني أن أدعو الجميع لطاعته، إن جاريتكم وطردتهم لأجل أن تؤمنوا وتتبعوني؟ فكم التعبير دقيق إذ قدم خوفه من الله تعالى على شرط استجابتهم.
كما وإن هذا الإستفهام {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} كأنه أتى هنا لتذكيرهم بحقيقة ضعفهم وضعفه في قبال سلطان الله تعالى وحاكمته وهيمنته وقوته التي لو عادوا إلى أنفسهم وفطرتهم الأولى النقية الصفية لتذكروها، تلك التي اقروا بها في تلك العوالم والتي مروا بها قبل عالم الدنيا، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى وكأنه يريد أن يذكرهم بحقيقة إنه مخلوق مثلهم، هو عبد لكن ميزته عنهم بأنه رسول، إلا أن هذه الميزة لا تعطيه صلاحية التصرف وفق ما يرى بل تجعله ذو تقوى اكثر بحضرة إلهه، ولا يعمل ما يرضي المجتمع عنه بل يعمل ما يرضي ربه عنه، ولو بقي وحيدًا غريبًا مرفوضًا من قبل أغلب قومه، غير مستجاب الدعوة، غير مطاع أو مرفوض، وهذا الأدب كثيرًا ما يركز عليه القرآن الكريم عندما يصف لنا الدعاة، ومن ذلك نفهم كم هو مهم لكل داعي أن يبقى يلتفت لهذه النقطة في كل حركاته وسكناته، في كل أقواله وأفعاله.
إذ أن أكبر ثغرة تفتك برسالية الداعية الذي يحمل رسالة لتقريب الناس من الله تعالى هي أن يُبلغ، يدعوا، يتكلم لكن بما يرغب به المجتمع، بما يستطيب له مسامعهم، فهنا هو متأثر لا مؤثر، متفاعل لا فعال، وهكذا لا تبقى أي قيمة لدعواه المزعومة! بل هو في داخله سيعيش بإضطراب وازدواجية، سيفقد القيمة المعنوية لذاته التي تدعي إنها ذاتٌ رسالية، فإن استخدام الوسائل الخطأ لبلوغ الغاية المقدسة أمر خطير بل وإن الغاية ستكون مجرد إدعاء ووَهم.
هذا وإن النبي كان حازم إلى درجة لم ينسبهم لنفسه، فالآيات في هذا الصدد كان الخطاب فيها (يا قوم) وليس (يا قومي) فقد رسم الحدود بينه وبينهم وجعلها واضحة، ليس فيها مجاملة، وهذا درس رسالي آخر تعلمنا إياه هذه الآية الكريمة.
وفي قبال ذلك فإن هذا الخطاب بمقدار ما هو خطاب تحذير للكافرين من القوم، هو خطاب فيه بشارة لكل مؤمن عليه ألا ينساها أو يغفل عنها بل لابد أن تبقى هذه الحقيقة حاضرة عنده يتحسسها ويتقوى بها، وهي أن الله تعالى المدافع عنه والناصر له لأنه ممن آمن، وإنه تعالى لا يسمح لأحد بالتقليل من منزلته ومقامه عنده لأنه كان ممن اتقى ربه.
اضافةتعليق
التعليقات