فاطمية في بلاد الغرب
كنت قد انتقلت للتو من السويد - والذي هو مسقط رأسي- الى بريطانيا حيث الجالية الاسلامية أكثر انتشارا هناك. قصتي مع العباءة تبدأ في سن الثانية عشر، كان والدي شديد الحرص عليّ وقد هاجر بنا الى لندن خصيصا لتسهيل تربيتنا، إذ إن الأهالي في السويد يعانون من الفساد الاجتماعي لذلك قرر والدي تسجيلي في مدرسة اسلامية أهلية. بدأت عامي الدراسي وكنت من المتفوقات على الرغم من صعوبة اللغة الانجليزية، معظم الأجواء العامة جيدة بالنسبة لي باستثناء الاختلاط في المدرسة الذي سلب الراحة مني على الرغم من ارتدائي الجبة.
تحدثت مع صديقتي المقربة بما يجول في خاطري وقررنا أن نرتدي العباءة سوية ومن الغد، عندما عدت للمنزل أخبرت عائلتي بالقرار فكانوا فخورين جدا وخصوصا أن القرار نابع من فطرة سليمة وقلب محب للحجاب وليس بالكره والاجبار. هيأت عباءتي للغد فوضعتها الى جانبي وغفوت.
حلّ الصباح جالبا معه كل البهجة والسرور ، ارتديت العباءة ونظرت الى مظهري في المرآة وكلّي عزّ وفخر، انتظرت بفارغ الصبر أن أصل للمدرسة وأرى صديقتي وعندما رأيتها امتلأت عيني بالدموع وأمسكت بيدها وطرقنا باب الصف.
فتح المعلّم الباب وهنا حدث ما لم يكن بالحسبان، حيث قال: ماهذا؟ ماهذا الذي ترتديه؟
أجبته: هذه عباءة ثم ان هذا الزي يعجبني كثيرا، يبدو أن جوابي لم يعجب الأستاذ فسحبت يدي صديقتي وجلسنا على مقعدينا. صار الاستاذ يتجاهلنا بالتدريس فقط لأننا نرتدي العباءة.
_ وماذا عن الطلاب؟
كان بعضهم يسخر من عباءتي فعندما أقوم وأكتب على السبورة أسمع أحد الطلاب يقول: انظروا الى باتمان (الرجل الخفاش). لم أبالي في الظاهر مطلقا ولكن بداخلي أتألم ومع ذلك تزداد عزيمتي واصراري حتى تحسنت معاملتهم لي بعض الشيء، وأصبحت أحظى بالاحترام منهم ولو ردت أن أمر من أمام أحدهم فانه يفسح لي الطريق بكل احترام وهذا الفعل كان خاص جدا لا يفعلوه مع غيري.
مرّت الأيام وأصبح عمري ستة عشر عاما فنقلت من المدرسة إلى الجامعة، وهناك تعرفت على صديقات جدد كنّ يستغربن حجابي ويصفنه ( بالأوفر) أي الزائد عن حده لصغر سني وباعتقادهن ليس ضروري لهذا المكان، كنت أقول لهن: نعم لست مضطرة ولكنني مقتنعة وفخورة بحجابي وما أن التمسن مني الاصرار حتى صار هذا الموضوع ملف مغلق لايتحدثن بشأنه، وأما الشباب فكانوا يكنون لي أشد الاحترام لعدم اختلاطي بهم.
الحمد لله أكملت دراستي الاكاديمية وتخرجت منها بامتياز، ثم أكملت دراسة الماجستير وكل ذلك بفضل الله تعالى ونظرة أهل البيت (عليهم السلام) لي ولولاهم لما توفقت في بعض ماذكرته أبدا.
الفتاة تعاني من المجتمع وخصوصا قد يؤثر سلبا عليها لكن المواجهة والاصرار هو المطلوب في هذه الحالات لتصبح غالية بعفتها وحياءها واقتداءها بفاطمة الزهراء (عليها السلام).
زينب- لندن، بريطانيا
عباءة جدتي
ارتديت العباءة في عمر الخامسة عشر، كانت ملابسي قبل هذا العمر عادية أي ليست بذلك الاحتشام فقد كنت ارتدي ( البنطال، التنورة، الفستان، ملابس قصيرة، أكمام مرفوعة ...) لم أكن أتحرز من نوع الملبس مطلقا وكنت أعتقد أن إعمار قلبي لا علاقة له بما أرتدي، ولكن بعمر الخامسة عشر بدأت أميل قليلا للملابس الفضفاضة. وخلال هذه الفترة من حياتي توفيت جدّتي رحمها الله، فكان موتها صدمة بالنسبة لي لأنني كنت متعلقة جدا بحبال مبسمها وصوتها الذي لم يغادر أذني إلى الآن.
عندما أقيم المأتم لم يكن في بيت جدي مايكفي من مئزر الصلاة (الجادر) فلجأت الى عبائتها وسجادة صلاتها التي ذهب لونها لكثرة الصلاة. أنا ك (سجى) الصغيرة كنت دائما إذا ما أصابني خطب ما أو حزن أكثرت الصلاة وقراءة سورة يس فتزودت الصبر على فراقها بالصلاة وأحببت صلاتي أكثر بعباءتها. عندما تركنا منزل جدتي بعد انتهاء مراسيم العزاء وفي الطريق أثناء عودتنا للمنزل فكرت في ارتداء العباءة عوضا عن أي لباس آخر فلم أتعلق بشيء بقدر ما تعلقت بهذه القطعة السوداء. كنت خائفة من اخبار عائلتي بهذا القرار المفاجيء.
مع العام الدراسي الجديد أخبرت أمي بأني أريد ارتداء العباءة وحتى في المدرسة، فقوبل هذا القرار بالدهشة بالطبع لا.
لازلت صغيرة وهذا شغف مؤقت.. كلامي مع والدتي لم يجد نفعا فاتجهت الى أبي فأخبرته بقراري فما كان منه إلا أن يرحّب بالقرار مبتسما.
العباءة التي ارتديها أول مرة كانت طويلة .. طويلة جدا ولأن والدتي كانت من معارضي هذا القرار لم أشىْ أن أخبرها عن احتياجي لعباءة تناسب قياسي. بدأت عامي الدراسي بعباءة طويلة جدا لكنها جميلة جدا. مع مرور الأيام عرفت أمي أنني لن أملّ من العباءة فاشترت لي واحدة وأهدتني أختي الثانية.
في أحد المرات سمعت خطيبا يقول: ارتدي ما يجعلك لاتشعري بالخجل من صاحب الزمان
(عجل الله فرجه) عندما يمر بجانبك. فكنت كلما مشيت في طريقي الى المدرسة أتذكر قول الخطيب والسعادة تغمر قلبي، وعلى الرغم من سماعي لتعليقات كثيرة ولكن لم تتغير قناعتي أبدا.
من لا يعرفون اسمي ينادوني ب (أم العباءة) هل أنا أما لها أم هي أمي؟ بدأت مرحلتي الجامعية والجميع يسألني: هل سترتادين الجامعة هكذا؟
وأتممت سنواتي الجامعية الأربع بالعباءة سمعت خلال هذه السنوات المديح والثناء والاستلطاف حتى من اللاتي لم يرتدين الحجاب.
تخرجت وأنا أضع قبعتي ووشاحي على عباءتي ولم ينقص مني شيئا بل زادني رفعة، أعطتني العباءة الكثير حتى أحسست أنّ كل توفيقات حياتي جاءت من خلالها ، سافرت وعبرت الحدود ودخلت مدن الألعاب ومارست هوايتي في التصوير من خلال حضوري للأعراس ولم أحظ إلا بالاحترام، فسبحان الذي زين مرتديها الوقار.
اضافةتعليق
التعليقات