ولد الإمام الجواد وتحقق المراد، ازدان روض العترة بغصنه الغض، فابتهجت القلوب، وقرّت الأعين بإشراقة نوره البهيّ؛ فقد ترقّبته أحضان الإمامة طويلا، وسهدت عيون الموالين لهفة لقدومه؛ وذلك لأن الإمام الرضا (عليه السلام) لم يُرزق بالخليفة من بعده إلا في وقت متأخر من عمره الشريف.
كان الشيعة يدركون تماما -حسب عقيدتهم الراسخة- إن سلسلة النور والهداية المتمثلة بالأئمة المعصومين لن تنقطع، ولا بدّ من استمرارها حتى يشرق نور المهديّ، وهاهم يرون إمامهم الرضا (عليه السلام) قد اقترب من سنينه الخمسين ولم يولد له ولد بعد !.
لذا كان الوسط الشيعي ينتظر هذا المولود بلهفة، وكثيرا ما واجه الإمام الرضا (عليه السلام) السؤال عن الخليفة من بعده فقد سأله أحد أصحابه: "قد بلغتَ ما بلغتَ وليس لك ولد، فقال (عليه السلام): يا عقبة إن صاحب هذا الأمر لا يموت حتى يرى خَلَفَه من بعده".
مثل هذا السؤال كان يعكس قلق الشيعة، واستغرابهم، وحيرتهم وكان الإمام الرضا (عليه السلام) يؤكد لهم حتمية وجود الخلف من ذريّته، وكان يوجّه أنظارهم إلى مولده الميمون، لذا لا غرابة أن يصفه بالمولود الأعظم بركة حيث قال (عليه السلام): "هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه".
وبعد ولادته كان على الإمام الرضا (عليه السلام) مسؤولية أخرى تجاه ولده، وهي ترسيخ فكرة الإمامة المبكرة تلك الظاهرة التي كانت جديدة في تأريخ إمامة أهل البيت، وحتى لا ينصدم الوسط الشيعي بهذا الأمر غير المسبوق؛ لذا نلاحظ هذه الفكرة طاغية في نصوص الإمام الرضا (عليه السلام) الواردة بعد ولادة نجله الجواد (عليه السلام).
منها ردّه على صفوان بن يحيى الذي سأله عن الإمام من بعده فأشار للجواد وكان عمره آنذاك ثلاث سنين، فتعجّب صفوان من ذلك فقال له الإمام : "وما يضرّه من ذلك قد قام عيسى بالحجة وهو ابن أقلّ من ثلاث سنين".
وقد وهب الله تعالى لإمامنا الجواد (عليه السلام) المؤهلات التي تؤهله لقيادة الأمة، والقيام بدور الحجة، فكان معجزة في ذاته، استطاع بما يحمله من علم لدنّي أن يتحدى علماء عصره، ويدحض مزاعم من شكك بإمامته.
وظهرت على يديه الكريمتين المناقب العظيمة، والكرامات الباهرة التي أذهلت معاصريه، وعزّزت مكانته في قلوب شيعته ومواليه نذكر منها ما ورد عن المطرفي قال: مضى أبو الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ولي عليه أربعة آلاف درهم، لم يكن يعرفها غيري وغيره، فأرسل إليّ أبو جعفر (عليه السلام) إذا كان غدا فائتني فأتيته من الغد فقال لي: مضى أبو الحسن ولك عليه أربعة آلاف درهم، فقلت: نعم، فرفع المصلّى الذي كان تحته، فإذا تحته دنانير فدفعها إلي، وكان قيمتها في الوقت أربعة آلاف درهم.
أما مجالس العلم الذي كانت تُعقد للإمام الجواد (عليه السلام) من قبل العباسيين في محاولة لإحراجه أمام الحضور بتوجيه الأسئلة الصعبة فكانت تلك المجالس جانبا من جوانب شخصيته القيادية الفذة، وقدرته الإعجازية على الإجابة على كل ما يطرح عليه من أسئلة مهما كانت شائكة أو غريبة، بل وقدرته على قلب الطاولة على خصومه حيث يقوم بدوره بتوجيه اسئلة يعجز الخصم عن الإجابة عليها فيظهر للملأ جهله وضحالة علمه، كما حدث في جوابه لأسئلة يحيى بن أكثم قاضي القضاة في مجلس المأمون، ثم توجيه أسئله عجز يحيى عن الإجابة عليها؛ فأفشل بذلك المخطط الخبيث الساعي للنيل منه، ومحاولة إحراجه وإسقاطه من أعين الناس.
فسلام على إمامنا الجواد وعلى آبائه الطاهرين خزّان علم الله، ومستودع حكمته، وموضع سرّه، وأوصياء نبيه.
اضافةتعليق
التعليقات