الإمام الجواد زهرة شباب الأئمة، غصن غضّ في دوحة الخلد، وكوكب من كواكب الأسحار، اختطف جنود العتمة نوره الوهّاج، فغاب عن سماء الهداية سريعا .
تسلّم الإمامة صبيا، وفارق الحياة شهيدا مسموما وهو في ريعان الشباب.
مع إمامنا الجواد نقف على ظاهرة ليس لها سابقة في حياة آبائه المعصومين عليهم السلام، وهي ظاهرة الإمامة المبكرة؛ حيث تسلّم لواء الإمامة بعد استشهاد أبيه الرضا وعمره سبع سنوات وأشهر، كما إنه أصغر الأئمة عمرا عند استشهاده فقد اغتاله المعتصم لعنه الله وهو في الخامسة والعشرين من عمره الشريف .
إنَّ ظاهرة الإمامة المبكرة حدث غريب لم تألفه القاعدة الشيعية فكان بالإمكان أن تؤدي إلى حصول صدمة في منهج أهل البيت خلال تلك الفترة الحرجة؛ كيف يمكن أن يكون إمام الزمان، وقائد المسيرة الربانية صبيا لم يبلغ الحلم ؟ لولا ماقام به الإمام الرضا عليه السلام من تمهيدات توكد إمامة ولده سواء من خلال النصوص أو من خلال سلوكه العملي !.
إن دراسة النصوص الكثيرة الصادرة عن الإمام الرضا عليه السلام حول إمامة الجواد سواء تلك التي صدرت قبل ولادته المباركة أو بعدها واستمرت حتى شهادة الإمام الرضا كانت كفيلة بإيجاد الأرضية المناسبة لمعرفة الناس بهذه الظاهرة وإيمانهم بها، ورفع أي شك أو التباس حول حامل لواء الإمامة، فمن النصوص التي صدرت قبل ولادة الإمام الجواد ما ورد عن حنان بن سدير قال: (قلت للرضا عليه السلام: يكون إمام ليس له عقب؟ فقال لي: أما إنه لا يولد لي إلا واحد ولكن الله ينشيء منه ذرية كثيرة ) .
هذا النص وغيره مما يشابهه في المضمون يعكس قلق الشيعة من عدم وجود ولد للإمام الرضا عليه السلام وقد تجاوز الأربعين من عمره الشريف، لكنه كان يطمئنهم بحقيقة لا تقبل التخلّف وهي إن الإمام المعصوم لا يغادر الحياة حتى يخلّف إماما يكمل بعده المسيرة .
أما من النصوص الواردة بعد ولادة الإمام الجواد ما ورد عن صفوان بن يحيى، قال: ( قلت لأبي الحسن الرضا قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول: يهب الله لي غلاما فقد وهب الله لك، وأقرّ عيوننا فلا أراني الله يومك، فإن كان كون فإلى من؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه، فقلت له جُعِلتُ فداك هذا ابن ثلاث سنين قال: وما يضرّه من ذلك قد قام عيسى بالحجة وهو ابن أقل من ثلاث سنين).
فهنا يحتجُّ الإمام الرضا عليه السلام بعيسى وحجيّته؛ فإن كانت ظاهرة الإمامة المبكرة جديدة في مسيرة أهل البيت فهي ليست جديدة في مسيرة تأريخ الحجج فعيسى عليه السلام اختاره الله نبيا وهو في المهد، ويحيى عليه السلام آتاه الله الحكم صبيا .
هذا الدليل نفسه أورده الإمام الجواد على من دخله الشك والارتياب بإمامته، فعن علي بن أسباط قال: (رأيت أبا جعفر عليه السلام وقد خرج عليّ فأخذتُ النظر إليه، وجعلت أنظر إلى رأسه ورجليه، لأصفَ قامته لأصحابنا بمصر، فبينا أنا كذلك حتى قعد، فقال: يا علي إن الله احتجّ في الإمامة بمثل ما احتج به في النبوة فقال: { وآتيناه الحكم صبيا } و { لمّا بلغ أشده }، {وبلغ أربعين سنة }، فقد يجوز أن يُؤتى الحكمة وهو صبي، ويجوز أن يؤتاها وهو ابن أربعين سنة) .
إذن حجج الله لا يخدش في حجيّتهم صغر السن، فهم المصطَفون من الله سواء كانوا صغارا أو كبارا .
ومن النصوص التي توكد على الزعامة الدينية للإمام الجواد قول الإمام الرضا: هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته مكاني، إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذّة بالقذة .
وتعبير (القذّة بالقذة) يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان .
هذه النصوص المتواترة إضافة إلى سلوك الإمام الرضا وتصرفاته تجاه ولده كلها تصبّ في هدف واحد وهو تعزيز مكانته لدى الشيعة، وإزالة أي شكوك تعتريهم تجاه إمامته المبكرة، فلم يكن يسمّيه باسمه المجرد بل بكنيته "أبي جعفر" كما ورد عن كاتب الإمام الرضا عليه السلام: (ماكان يذكر محمدا ابنه إلا بكنيته، يقول: كتب إليَّ أبو جعفر، وكنتُ أكتب إلى أبي جعفر وهو صبي بالمدينة فيخاطبه بالتعظيم، وترد كتب أبي جعفر في نهاية البلاغة والحسن، فسمعته يقول: أبو جعفر وصيّي، وخليفتي في أهلي من بعدي).
وبالإضافة إلى تأكيدات الإمام الرضا قولا وفعلا فإن الإمام الجواد عليه السلام كان معجزة بحد ذاته، احتج على المشككين بإمامته، وأثبت أهلّيته بما أظهر من العلوم الألهية، والكنوز المعرفية التي تحدّى بها كبار علماء وفقهاء عصرة، أهمها تلك المناظرة العلمية بينه وبين قاضي قضاة العباسيين في ذلك الوقت "يحيى بن أكثم"، وكان عمره حينها تسع سنوات، تلك المناظرة وأمثالها مصداق واضح لشخصيته الإعجازية وما تحمله من علوم ربانية تعكس حقيقة ارتباطه بالله، وإنه عليه السلام حجة الله في أرضه .
وكذلك ما جرى على يديه المباركتين من الكرامات، منها ما ورد عن أبي هاشم الجعفري قال:
(دخلت على أبي جعفر الثاني عليه السلام ومعي ثلاث رقاع غير معنونة، واشتبهت عليّ، واغتممت لذلك؛ فتناول إحداهنّ فقال: هذه رقعة ريان بن شبيب، ثم تناول الثانية وقال: هذه رقعة محمد بن حمزة، وتناول الثالثة وقال: هذه رقعة فلان. فبهتُّ! فنظر إلي وتبسّم) .
هذه الكرامة وغيرها كثير يضيق المقام بذكر بعضها .
وأخيرا فإن ظاهرة الإمامة المبكرة أضافت دليلا حسيا جديدا إلى جانب سائر الأدلة على حقّانية مذهب أهل البيت، وخطهم الرسالي، وصدق ارتباطهم بالله تعالى، واثبتت بصورة قاطعة إن اختيار الإمام اختيار رباني غير خاضع للأهواء البشرية، ولو كان كذلك لما اختار الشيعة إماما صبيا .
كما إن الإمامة في معتقد الشيعة ليست وراثة كالحكم الملكي، بحيث يكون احتمال أن يرث العرش الملكي صبي أمر وارد ومقبول، بل الإمامة في مفهوم التشيّع عقيدة راسخة وعميقة، قام بإرساء قواعدها والتضحية من أجلها الأئمة المعصومين جيلا بعد جيل وصولا إلى عهد الإمام الجواد .
وأصبح الشيعة يعرفون شروط من يتقلّد هذا المنصب الإلهي الرفيع، وإنه يجب أن يكون أفضل أهل زمانه، وأعلمهم، واتقاهم لا ينافسه في سمات الفضل أي بشر يعاصره، بصرف النظر عن عمره .
ولقد كان الإمام الجواد سليل البيت النبوي، وخليفة أبيه الرضا أفضل أهل زمانه بما قام به من دور عظيم في حفظ عقيدة التشيّع وصيانتها، وبما تركه من تراث قيّم فكان حقا كما وصفه أبوه الرضا عند ولادته: (هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم على شيعتنا بركة منه) .
اضافةتعليق
التعليقات