هناك توجهات متنوعة في تعريف الفساد فهناك من يعرفه بأنه خروج عن القانون والنظام (عدم الالتزام بهما) أو استغلال غيابهما من أجل تحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية للفرد أو لجماعة معينة، بينما يعرفه آخرون بأنه قيام الموظف العام وبطرق غير سوية بارتكاب ما يعد إهدارا لواجبات وظيفته، فهو سلوك يخالف الواجبات الرسمية للمنصب العام تطلعا إلى تحقيق مكاسب خاصة مادية أو معنوية. ويوسع البعض مفهوم الفساد بحيث يشمل كل سلوك يجافي المصلحة العامة.
هناك اتفاق دولي على تعريف الفساد كما حددته “منظمة الشفافية الدولية” بأنه ”كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية لنفسه أو جماعته “.
الفساد بالأساس ظاهرة اجتماعية في المجتمعات البشرية. إن البيئة الاجتماعية بما تملكه من مجموعة كبيرة من الوسائل، التي تمثل آليات الضغط الاجتماعي، لها الأثر الكبير بالتأثير في الفرد. فالفرد بالنتيجة هو جزء من النظام الاجتماعي. ومن المعروف أن لكل نظام اجتماعي قيمه الموروثة، التي تبرز على شكل ضوابط سلوكية يخضع لها الفرد، خشية تعارض رغباته وحاجاته مع الآخرين. لذلك ينظر علماء الاجتماع إلى الفساد بكونه (علاقة اجتماعية) تتمثل في الخروج عن القواعد المستقرة في المجتمع المتعلقة بواجبات الفرد إزاء الآخرين.
إنَّ الفساد يمكن أنْ يتفشَّى في المجتمعات الصغيرة التي تتميز فيها العلاقات بين الأفراد بطابعٍ شخصيٍّ واضحٍ، وتبرز فيها أهمية ما يسمى (الرصيد الاجتماعي للفرد) أي قدرته في التأثير في الآخرين.
فالعلاقات الاجتماعية ومدى ترابطها أو تفككها لها الدور الكبير في تفشَّي الفساد أو انحساره. ولعلَّ من المفارقات أنَّ هذا التماسك في بعض المجتمعات، لاسيما في الدول النامية -ومنها دولتنا -،يعدُّ من أسباب تفشي الفساد وانتشار مجموعةٍ من أفعالهِ، مثل الواسطة والمحسوبية والمحاباة. ومن جهةٍ أخرى فإنَّ غياب القيم في المجتمع وعدم الاهتمام بغرس قيم الفضيلة والخير والمساواة، في مقابل قيمٍ اجتماعيةٍ أخرى تقوم على الولاء والانتماء لعشيرةٍ أو حزبٍ أو جهةٍ معينةٍ، يؤدي إلى تخفيف حدة النظر إلى الفاسدين بكونهم فاسدين، بل سيُنظر إليهم بوصفهم سنداً وقوةً، وربما فخر، وهو ما يؤدي بالمحصِّلة إلى استفحال الفساد، ومن ثم التأثير في إضعاف سياسات مكافحتهِ.
وكلُّ ذلك يؤشر ضعف المجتمع وعدم حصانتهِ، وتراجع دور المدرسة والجامعة والمسجد، وغير ذلك من مؤسسات المجتمع، في تحصينهِ ضد الفساد. فالحقُّ أنَّ تغوُّل الفساد في المجتمع لهو دليلٌ قاطعٌ على وجود (خللٍ اجتماعيٍّ) في التركيبة الاجتماعية، وهكذا كلما ازداد الخللُ كلما تصدَّع جدارُ المجتمع في مقابل الفساد، الأمر الذي يسمح للأخير – الفساد- بالنموِّ والترعرع، حتى لا يكاد يُنظر إليه بوصفهِ جريمةً، وإنْ كان الجميع ينكرونه بألسنتهم ويتظاهرون ضده، إذ سيصبح سلوكاً متأصلاً حتى في نفوس بعض من ينكرونه بألسنتهم؛ فينشأ ما يمكن تسميته (الفساد المجتمعي أو الاجتماعي)، وهو الفسادُ الناجم من المجتمع.
أشكال الفساد؟
للفساد أشكال مختلفة متعددة ولعل أبرزها:
الفساد الأمني والاجتماعي
يعتبر توفر الأمن في مجتمعٍ ما من أساس النعم، والمجتمعات التي تفتقد الأمن والأمان تسود فيها أنواع كثيرة من الفساد، وعدم توفر الأمن قد يسول للأنفس المريضة سلوك طرق الفساد من غشٍ وخداعٍ ومحسوبيات، ومن فقد الأمن والأمان قد لا يشعر ببقية النعم. إن عدم الاستقرار سبب من الاسباب الرئيسية للفساد ومع وجود الفساد بشكل كبير في المجتمعات تكون نتيجتها فقدان الأمن والأمان للمنطقة التي نعيش فيها ونتائجها تكون وخيمة على الأمن في المجتمع من السلب والنهب للمال العام وفقدان للممتلكات العامة والاضطرابات في الأمن. وبذلك عدم الاستقرار والطمأنينة للمواطنين وتوقف لحركة أسواق الأعمال التجارية والصناعية والركود الاقتصادي ويؤدي إلى الانهيار والتفكك الاجتماعي.
الفساد السياسي
والذي يعرف بأنه “إساءة استعمال السلطة العامة لتحقيق المكاسب الخاصة”، أي قيام البعض من السياسيين والمتنفذين باستعمال منصبهم كأداة في الفساد لتحقيق مكاسبهم الشخصية وزيادة ثرواتهم على حساب بقية أفراد المجتمع، وكمثالٍ على ذلك تحويل صفة بعض الأراضي التي تعود ملكيتها للمال العام كالحدائق أو المدارس وتحويلها لصفة سكنية أو تجارية بغية الاستفادة منها للشخص الواحد المستفيد أو جماعة محددة. ويعود بذلك نتائج كارثية على المجتمع والمؤسسات بشكل خاص كون هذه الممتلكات تعود للمؤسسات العامة التي تستفيد منها بشكل عام بجميع مكوناتها وطبقاتها الإجتماعية.
الفساد الإداري
والذي يعرف بأنه “سلوك بيروقراطي يهدف لتحقيق منافع شخصية بطرق غير شرعية” والبيروقراطية هي سلطة المكاتب والموظفين، وهي تتميز بالروتين المبالغ فيه والبطء والتمسك بحرفية القواعد والجمود، وبالتالي تعطيل سير المصالح العامة وكذلك قيام كبار الموظفين في السلطة بتعيين الموظفين وفق ما يتناسب مع مصالحهم الشخصية، واستغلال المنصب من أجل القيام بعمل ما وخدماتٍ لأشخاصٍ مقابل الحصول على مكسبٍ مادي، كما يشمل هذا النوع من الفساد الاستخدام السيئ للوظيفة وعدم تطبيقها بالأسلوب المطلوب وعدم احترام القوانين والأنظمة المتعارف عليها .
الفساد الأخلاقي
إن أول ما يفسد في نفوس الفاسدين هو الوازع الأخلاقي مهما كان مسماه دينيًا أو تربويًا أو أسريًا أو ثقافيًا، ولعل من أشد الأخطار التي تروج للفساد الأخلاقي في وقتنا هذا المخدرات أو الاعلام والقنوات الفضائية الرخيصة التي تستهدف عنصر الشباب الذي يعتبر السبب في نهضة الأمم، وذلك عن طريق بث البرامج والأفلام والأغاني التي تدعو للانحلال الأخلاقي وعدم المسؤولية والانضباط وعدم الشعور بالواجب تجاه أوطانهم ضمن دوامة من المسلسلات والأغاني والبرامج، فترى الشباب يهتمون ويتابعون مطربًا أو مطربةً ما أكثر من اهتمامهم بالأمور السياسية والثقافية والاقتصادية والعمل لبناء مستقبلهم الذي يعتبر مستقبل الوطن أجمع. وذلك يعود للفساد المتواجد في مؤسسة التعليم من قبل بعض المسؤولين الذين بات جل اهتمامهم في جمع المال والنهب والسلب والسلطة فقط.
الفساد الاقتصادي
يتمثل فيما تقوم به الشركات الوطنية العامة أو الشركات الخاصة من استغلالٍ بشعٍ لتفشي البطالة في المجتمع واستغلالها لليد العاملة وتسويق المنتجات وإظهار نموٍ اقتصاديٍ زائفٍ يتمثل في نشاطاتٍ تجاريةٍ وصناعيةٍ وزراعيةٍ غير حقيقيةٍ، واستثماراتٍ كاذبةٍ، الأمر الذي ينعكس سلبًا على الخطط والسياسات المرسومة وبرامج التنمية الموضوعة والتي قد توضع أصلا منسجمة مع مصالح فئاتٍ معينةٍ وشركاتٍ محددةٍ، وكذلك الجرائم الاقتصادية التي تقوم بها (مافيات) الشركات المتعددة الجنسيات أو الخاصة ذوي أصحاب الرأسمال والتي تتحكم بجميع مفاصل التجارية في البلاد عن طريق بعض الأشخاص المتواجدين في السلطة ويعملون لمصلحتهم الشخصية بدل المصلحة العامة أو المجتمع.
الفساد المالي
من المعروف أن المال العام له أهميةٌ كبرى وهو العمود الفقري لجميع المؤسسات والادارات والحكومات، وهو العنصر الأساسي الفاعل والمؤثر في الحياة، ويقصد بالفساد المالي كافة التعاملات المالية والاقتصادية التي تهدر المال العام بدون فائدةٍ أو لصالح فئةٍ معينةٍ، أو مشاريع غير مفيدة المجتمع عامةً أو جرائم الاختلاس سواء كانت أموالًا نقديةً أو ممتلكاتٍ الحكومة مما يؤدي لأكل أموال المجتمع والناس بغير حق.
فساد المؤسسات
عندما تكون المؤسسات التابعة للإدارة أو الحكومة ضعيفة وفيها تجاوزات للأنظمة والقوانين، يصبح معها جهاز الادارة والحكومة بحد ذاته مؤسسةً للفساد ويمكن التمييز بين نوعين من الفساد في المؤسسات من حيث الحجم:
فساد المؤسسات الصغير
وهو الفساد في الدرجات الوظيفية الدنيا وهو الفساد الممارس من قبل فرد واحد من دون التنسيق مع آخرين، لذا يكون منتشرًا بين صغار الموظفين عن طريق أخذ الرشاوى في سبيل تسيير معاملات ومصالح شخصية لذوي أصحاب النفوس والرأسمال.
فساد المؤسسات الكبير
وهو الفساد في الدرجات الوظيفية العليا والذي يمارسه كبار الموظفين والمسؤولين من أجل تحقيق مصالح ماديةٍ أو اجتماعيةٍ على مستوىً كبير، وهو أخطر من غيره لأنه يكلف السلطات أو الإدارة والحكومات مبالغ ماليةً ضخمة وخسائر كبيرة اقتصادية واجتماعية وسياسية ويعود بآثاره سلبا على المجتمع بشكل كبير.
إن الفساد بأوجهه المختلفة المحلية والعالمية هو آفة ما تلبث أن تفتك بالمجتمعات التي تنتشر فيها، وما ازدياد الأزمات والتقلبات في اقتصاديات الحكومات وازدياد الفقر والعوز، إلا وكان الفساد أحد أسبابها المباشرة، فالقضاء على الفساد الصغير غير مجدي مع بقاء الفساد الكبير، فالعملية تستوجب القضاء على كليهما، كما إن المسألة هي ليست المناداة بالقضاء على الفساد دون وضع الأسس العقلانية والممهدة فعلياً للقضاء عليه، فلا ننادي بضرورة القضاء على الفساد في الحكومات دون وضع السبل الكفيلة في بادئ الأمر للوقاية منه، فبقاء الفساد وتوسعه معناه وقوع المجتمع في الفقر والتعرض للاضطرابات التي لا تنفك عنه إلا وتحيله حطاماً. المطلوب وضع خطة استراتيجية تقود إلى محاربة كافة أنواعه وأوجه الفساد ومحاربة كل حاضنات الفساد وبكافة أشكاله وأنواعه.
إن محاربة الفساد والثورة عليه هي أحد أهم الأسس للنجاح ولبناء مجتمع خالٍ من الفساد يقود لتنميه اجتماعية مستدامة وبناء اقتصاد وطني يحقق العدالة الاجتماعية بين الجميع ويجب أن تأخذ الجهات المسؤولة في ملاحقة الفاسدين والمفسدين ضمن خطة وطنية تقودنا لتطهير المجتمع من كل أنواع الفساد.
أسباب تفشي ظاهرة الفساد:
تتعدد الأسباب الكامنة وراء بروز ظاهرة الفساد وتفشيها في المجتمعات بالرغم من وجود شبه إجماع على كون هذه الظاهرة سلوكا إنسانيا سلبيا تحركه المصلحة الذاتية، ويمكن إجمال مجموعة من الأسباب العامة لهذه الظاهرة التي تشكل في مجملها ما يسمى بمنظومة الفساد، إلا أنه ينبغي الملاحظة بأن هذه الأسباب وإن كانت متواجدة بشكل أو بآخر في كل المجتمعات إلا أنها تتدرج وتختلف في الأهمية بين مجتمع وآخر فقد يكون لأحد الأسباب الأهمية الأولى في انتشار الفساد بينما يكون في مجتمع آخر سببا ثانويا، وبشكل عام يمكن إجمال هذه الأسباب كمايلي:
انتشار الفقر والجهل ونقص المعرفة بالحقوق الفردية، وسيادة القيم التقليدية والروابط القائمة على النسب والقرابة.
عدم الالتزام بمبدأ الفصل المتوازن بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية في النظام السياسي وطغيان السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية وهو ما يؤدي إلى الإخلال بمبدأ الرقابة المتبادلة، كما أن ضعف الجهاز القضائي وغياب استقلاليته ونزاهته يعتبر سبباً مشجعاً على الفساد.
ضعف أجهزة الرقابة في الدولة وعدم استقلاليتها.
وتزداد الفرص لممارسة الفساد في المراحل الانتقالية والفترات التي تشهد تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية ويساعد على ذلك حداثة أو عدم اكتمال البناء المؤسسي والإطار القانوني التي توفر بيئة مناسبة للفاسدين مستغلين ضعف الجهاز الرقابي على الوظائف العامة في هذه المراحل.
ضعف الإرادة لدى القيادة السياسية لمكافحة الفساد، وذلك بعدم اتخاذ أية إجراءات وقائية أو عقابية جادة بحق عناصر الفساد بسبب انغماسها نفسها أو بعض أطرافها في الفساد.
ضعف وانحسار المرافق والخدمات والمؤسسات العامة التي تخدم المواطنين، مما يشجع على التنافس بين العامة للحصول عليها ويعزز من استعدادهم لسلوك طرق مستقيمة للحصول عليها ويشجع بعض المتمكنين من ممارسة الواسطة والمحسوبية والمحاباة وتقبل الرشوة.
تدني رواتب العاملين في القطاع العام وارتفاع مستوى المعيشة مما يشكل بيئة ملائمة لقيام بعض العاملين بالبحث عن مصادر مالية أخرى حتى لو كان من خلال الرشوة.
غياب قواعد العمل والإجراءات المكتوبة ومدونات السلوك للموظفين في قطاعات العمل العام والأهلي والخاص، وهو ما يفتح المجال لممارسة الفساد.
غياب حرية الاعلام وعدم السماح لها أو للمواطنين بالوصول إلى المعلومات والسجلات العامة، مما يحول دون ممارستهم لدورهم الرقابي على أعمال الوزارات والمؤسسات العامة.
ضعف دور مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الخاصة في الرقابة على الأداء الحكومي أو عدم تمتعها بالحيادية في عملها.
غياب التشريعات والأنظمة التي تكافح الفساد وتفرض العقوبات على مرتكبيه.
الأسباب الخارجية للفساد، وهي تنتج عن وجود مصالح وعلاقات تجارية مع شركاء خارجيين أو منتجين من دول أخرى، واستخدام وسائل غير قانونية من قبل شركات خارجية للحصول على امتيازات واحتكارات داخل الدولة، أو قيامها بتصريف بضائع فاسدة.
مكافحة الفساد!
يتصل بمفهوم الفساد مجموعة من المفاهيم الأخرى التي تشكل عناصر أساسية في إستراتيجية مكافحته كالمحاسبة والمساءلة والشفافية والنزاهة، ويمكن توضيح كل منها كمايلي:
1. المحاسبة: هي خضوع الأشخاص الذين يتولون المناصب العامة للمساءلة القانونية والإدارية والأخلاقية عن نتائج أعمالهم، أي أن يكون الموظفون الحكوميون مسؤولين أمام رؤسائهم (الذين هم في الغالب يشغلون قمة الهرم في المؤسسة أي الوزراء ومن هم في مراتبهم) الذين يكونون مسؤولين بدورهم أمام السلطة التشريعية التي تتولى الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية.
2. المساءلة: هي واجب المسؤولين عن الوظائف العامة، سواء كانوا منتخبين أو معينين، تقديم تقارير دورية عن نتائج أعمالهم ومدى نجاعتهم في تنفيذها، وحق المواطنين في الحصول على المعلومات اللازمة عن أعمال الإدارات العامة (أعمال النواب والوزراء والموظفين العموميين) حتى يتم التأكد من أن عمل هؤلاء يتفق مع القيم وتعريف القانون لوظائفهم ومهامهم، وهو ما يشكل أساسا لاستمرار اكتسابهم للشرعية والدعم من الشعب.
3. الشفافية: هي الوضوح داخل المؤسسة وفي العلاقة مع المواطنين (المنتفعين من الخدمة أو مموليها) وعلنية الإجراءات والغايات والأهداف، وهو ما ينطبق على أعمال الحكومة كما ينطبق على أعمال المؤسسات الأخرى غير الحكومية.
4. النزاهة: هي منظومة القيم المتعلقة بالصدق والأمانة والإخلاص في العمل، وبالرغم من التقارب بين مفهومي الشفافية و النزاهة إلا أن الثاني يتصل بقيم أخلاقية معنوية بينما يتصل الأول بنظم وإجراءات عملية.
اضافةتعليق
التعليقات