[اعتزل ما يؤذيك] العبارة الأكثر شهرة والتي ظاهرها أن العامل بها سيحمي نفسه ويحفظها، إلا أن باطنها فيها عدة مشكلات منها: ما هو حدود هذا الأذى، ما هو حجمه، درجته؟ ومن هم الذين علينا اعتزالهم؟ إذ أن العبارة مطلقة في فعل الاعتزال الصادر منا، وفي طبيعة الأذى المعرضين له - فكما يعبرون- إن هذا ما يجعل الإنسان يهدم بناءه النفسي وليس فقط يضعفه أو يجعله هشّاً ترفاً لا يتحمل أي شيء حتى وإن كان ذلك الشيء الذي يواجه أو يلاقيه هو شيء بسيط، بل ويصل إلى مرحلة لا يتوقع إلا المساندة بل وينتظر الدعم!!
قاعدة قرآنية في قبال هذه العبارة
وهنا عندما نبحث في آيات الذكر الحكيم نجد ما يبصرنا هذه الحقيقة كي لا نخدع، فنفقد أساس من أساسات غاية وجودنا في هذا العالم ألا وهو مجاهدة النفس وبنائها في تحمل مشاق هذه الرحلة، التي واحدة منها هي تحمل الأذى الصادر من الآخرين تجاهنا، فمن لا يتعرض للأذى ويواجهه كيف له أن يعرف نفسه وقابلياتها وقوتها؟
لذا تعالى يعلمنا على لسان رسله الذين هم أكثر الناس اختلاطًا في المجتمع وأكثر الناس عرضة للأذى، فهم مكلفون بالتعامل مع كل أصناف الناس وليس من هم ضمن دائرتهم الاجتماعية، بقوله: {… وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}(ابراهيم : ١٢)، فالصبر هو الحل الذي ينبغي أن نتحلى به لا الاعتزال إن أردنا أن نبني هذه النفس بناءً حقيقيًا.
فالاعتزال قد يجنبنا التعرض للأذى لكنه ليس إلا حجاب نختبئ خلفه كي لا نعترف بضعف نفوسنا وهشاشتها، فإن صعوبة تحمل الأذى هو كالجرح معالجته في مداواته لا بإهماله وإخفائه والتظاهر بأنه غير موجود، ففي المداواة وحدها ما تجعل النفس قوية ليس أمام موقف أذى واحد لا نتحمل التعرض له في أول الأمر، بل تكون لدينا قابلية ونماء في تقبل أي أذى محتمل يمكن أن نتعرض له، وهذه واحدة من نقاط قوة ديننا فهو يريد بناء الفرد المسلم بناءً حقيقياً متيناً وقوياً لا بناءً ظاهره أنيق وباطنه عتيق يتهدم في أول ضربة.
الدافع الذي يقوينا على مواجهة الأذى لا اعتزاله
من لطائف العبودية لله تعالى في هذا الشأن هو في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ …}(النحل: ١٢٧)، إذ إن الإنسان المؤمن الذي يعيش العبودية لله تعالى نعم هو يقول سأصبر وينوي ذلك لكن ليس بحوله ولا قوته بل بعون من معبوده، فما أن يرى تعالى صدق عبده في مجاهدة نفسه حتى يمده بالصبر.
فالذي يستند على قوته في تحمل الأذى لن يصبر وإن صبر لن يستمر، إلا أن من يوقن إن الصبر يناله بفضل من الله تعالى فإنه سوف يمتلك الحافز والشجاعة والثقة بأنه سيكون قادراً على مواجهة أي أذى من قريب أو بعيد، فكيف إذا كان هذا الأذى يصيبه لأجل ربه لا لأجل نفسه، كيف ستكون معونة الله تعالى وأي صبر هو سيتلقى ومن ثم أي قوة نفسية سيحمل؟!
ومع كل ذلك تعالى يقول: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ}(الزمر:١٠)، فمع أنه الذي يمدنا بالصبر هو يجزينا عليه، فمن يدرك هذه الحقيقة هل سيرضى لنفسه العيش وفق هذا المبدأ، ويلقى ربه وهو لم يجاهد نفسه وقد خسر أجر من سيجزى بغير حساب!.
____
اضافةتعليق
التعليقات