لو أراد المتأمل بكتاب الله فهم شيء مما يراد من هذا التعبير القرآني {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى} في سورة آل عمران، فيمكن أن ينال ذلك باستفهام نفس الآيات التي سبقتها ولحقتها، فهناك ترابط فيما بينها من حيث الدلالة والمعنى والغاية من ذكرها، وعندئذ تحصيل عدة اشارات مهمة..
الأنثى ودورها الأساسي في صناعة الذرية المصطفات
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ *ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(آل عمران:٣٣-٣٥).
فمن الملفت في أولى هذه الآيات إن في الاصطفاء نسب لفظة [آل] لنبي الله إبراهيم وعمران (عليهما السلام)، بينما أفرد آدم ونوح (عليهما السلام) دونها، إذ فيما قيل* في علة ذلك إن آدم (عليه السلام) لم يكن له آل عندما تم اصطفائه، ونوحًا (عليه السلام) كانت زوجته وابنه -أي آله- ليسوا مؤهلين للاصطفاء الإلهي فزوجته وابنه كانوا ممن ذمهم القرآن الكريم بكون زوجته من الخائنين وابنه عمل غير صالح.
ففي اللغة يقال [آل الرجل هم أهله وعياله]، فأن تسمى سورة كاملة بآل عمران فيها إشارة إلى أهمية ودور صلاح المجتمع الخاص الصغير -الأسرة- والذي يتكون منه فيما بعد المجتمع العام الصالح، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى هو إبراز لخطورة وأهمية دور المرآة بشكل خاص في تكوين الآل المصطفى، وفي انتاج وصناعة ذرية صالحة بعضها من بعض في النور والصلاح، وعندها تصنع منهم عباد مؤهلين ليكونوا من أهل الاصطفاء هم وذراريهم كما بينت لنا هذه السورة في هذه الآيات.
إذ لم تتحدث عن عمران مثلاً بل تحدثت مباشرة عن امرأة عمران وما سعت إليه ونالته، بل وفصلت في ذكر المقدمات التي قدمتها هذه المرأة الصالحة في مقصدها ونيتها في إنجاب ذرية خالصة لله تعالى، وكيف إنها طلبت القبول لا الجزاء، فدورها هنا هو الأساس في أن تصبح أمًا لمريم (عليها السلام)، كما وكانت صاحبة نظرة بعيدة المدى فهي لم تطلب ذرية صالحة فقط بل وطلبت من ربها صلاح ذرية ذريتها بإعاذتهم من الشيطان الرجيم.
وهكذا تحقق بها هذا المعنى بأنها ممن انجبت ذرية بعضها من بعض في الاصطفاء، إذ السيدة مريم وابنها تحقق فيهم أمر الاصطفاء الإلهي، بالنتيجة نصل لهذه الحقيقة أن أم مريم كأنثى في دورها هذا ليس كدور عمران أبو مريم الذي لم تشير إلى دوره الآيات إلا بهذا المقدار أي كونها امرأته.
تحطيم الاعتقادات الخاطئة تجاه أدوار المرأة الإلهية
قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ* فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً}، في هذه الآية كان مقصد أم مريم واضحاً في مبتغاها من هذا الوليد، وهو أن يكون عبدًا لله تعالى وخادمًا في سبيله وداعيًا إليه.
واللطيف أن الله تعالى هنا بقوله {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى} كان مخاطبًا بالأساس أم مريم - أي المرأة نفسها - بأن تعرف قدرها عند الله تعالى وقيمتها وعظيم دورها الموكل إليها في الدعوة إليه والعمل في سبيله، فلما أدركت أم مريم ذلك وسلمت برضا وقبول تام هنا حصل القبول الإلهي الذي طلبته في أول حملها، بل وتعالى عبر عن القبول بأحسن القبول وليس فقط قبولًا.
والمعنى الذي يمكن أن يفهم في هذا المورد من كون الذكر ليس كالأنثى، أن الله تعالى قد خص الأنثى -السيدة مريم عليها السلام - بأنها ليست كالذكر في هذا المحل بأنها يمكنها أن تمارس دور خدمة بيت الله تعالى والدعوة إليه كما يمكن للذكر بل خصها تعالى بتكليف أوسع وأخص، فهي كانت وعاء لحمل روح الله عيسى وآيته دون أن يكون للذكر دور وذلك بمشيئة الله تعالى وإرادته، وهذا ما خصت به الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إذ كان منها نسل الأئمة من ذرية خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله).
كفالة الذكر ليس كالأنثى
قال تعالى: {وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا}، هنا نجد إن السيدة مريم (عليها السلام) كأنثى مع إنها أمة لله تعالى ومكفولة بكفالته، ومرزوقةً من عنده بغير احتساب، إلا أنه خصها بكفالة خاصة من أقرب خلقه إليه، وهذه ميزة خص تعالى الأنثى بها، فهي بصورة عامة تعالى خصها بهذا الأمر فهي لها كفيل وولي سواء كان أب أو أخ أو زوج وليس كما في الذكر فهو له -إن صح التعبير- الكفالة الإلهية العامة.
وهذا إن دل فإنه يدل على خصوصية لها عند ربها من حيث العناية والحماية، ويدل أيضا على أن كفالة الأنثى من ذكر هي حاجة فطرية وضرورة كما أن وجودها مهم، عدم توفرها يسبب خلل في توازنها النفسي كإنسانة وليس العكس.
الأنثى بالتذكير بالله تعالى وتقريب العباد ليست كالذكر
قال تعالى: {قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ* هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ}، لعل هذا المورد يشير أيضا إلى إن الأنثى إن وصلت إلى علاقة قرب من بارئها ويقين خالص بربها كانت آية دالة عليه عز وجل ليس لعامة خلقه بل حتى لخواص خلقه.
فهي بالتأثير وتقريب العباد منه سبحانه ليست كالذكر، فنحن نرى كيف أن مجرد مظهر حجاب المرأة الكامل دال على الله تعالى ويذكر كل من يراها به، فكيف لو كانت ذات حجاب كامل ظاهري وباطني؟!
ولعل في قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً}، إشارة إلى أن الأنثى هي ليست فقط بإيمانها مصدر تقريب بل بتقواها تعصم الذكر من أن يعصي وبذلك تكون مصداق تقريب للعباد من معبودهم بتقليص فجوة العصيان.
بالنتيجة هذه الإشارات مهمة جدًا في فهم شيء من قيمة الأنثى ودورها عند الله تعالى، لو أدركت من خلالها كل فتاة مؤمنة ما لها في دين الله تعالى، لما تشوهت صورتها تجاه نفسها ولما شعرت بالدونية، ولما انجرفت وراء كل قول وفكرة حداثوية.
——————-
اضافةتعليق
التعليقات