تمضي الايام مسرعة غالبا ما تشابه بعضها، وفي كل يوم تتسابق هيفاء مع عقارب الساعة لانجاز الاعمال المنزلية كأي أم وربة بيت تحرص على أداء واجباتها تجاه اولادها الاربعة وزوجها الذي يحبها وتحبه كثيرا فهو مثال للزوج الصالح والاب الحنون، طيب القلب باذخ العطاء يسعى لتحقيق النجاح المستمر في عمله ويترك مسؤولية البيت والاسرة على عاتقها وهي اهل لذلك.
تنهمك هيفاء في العمل منذ الصباح الباكر وتثابر على تعليم الاولاد وتربيتهم تربية صحيحة، تتابع مستواهم الدراسي وتساعدهم في حل واجباتهم، تعيش حياة مستقرة منذ سبعة عشر عاما لا تخلو من الخلافات الزوجية التي غالبا ما تكون بسبب انشغال زوجها الدائم بأمور العمل فهو لٱ يجد متسع من الوقت لقضائه مع العائلة ما يجعله يتصل كل مساء معتذرا عن تأخره.
وما ان يأتي ينشغل بهاتفه الجوال، يرد على الاتصالات ويتصفح مواقع تخص العمل ويحضّر جدول اعماله ليوم الغد فلا بد له ان يجتهد ويحقق المكسب ليلبي كل ما تحتاجه الاسرة من متطلبات الحياة ويلتمس منها العذر، اعتادت هيفاء على ذلك فهي الاخرى تجد الراحة في ساعات المساء من كل يوم تستمتع بمشاهدة حلقة جديدة من المسلسل الهندي الذي تتابعه وفيما بعد تتواصل مع الاقارب والاصدقاء عبر (الانترنت) ومن خلاله تستمع الى آخر الأخبار والمستجدات على جميع الاصعدة ولا يخفى عليها شيء حيث ترى العالم برمته في قرية صغيرة وهي تكاد لا تبارح منزلها لعدة ايام..
ولكن اين هي من كل ذلك؟
سؤال راودها ذات يوم في مثل هذه الايام الباردة من فصل الشتاء، عاد زوجها الى المنزل مبكرا على غير عادته ليخبرها بانه يستوجب عليه السفر غدا صباحا في مهمة عمل ولن يغيب اكثر من سبعة ايام وسيكون على اتصال دائم معهم عبر Whats App
مما خفف عنها وتيرة القلق فهي لم تعتاد على غيابه طويلا، ابتسمت بحزن وتمنت له السلامة والتوفيق وانقضت الليلة بالسمر والشجون..
وفي الصباح سافر زوجها بعد ان اوصاها بنفسها والاولاد وهو على اتم الثقة بأنها ستكون على قدر كاف من المسؤولية، ودّعته وهي تكفكف دموعها كأنها طفلة تاهت بين الزحام تدعوا الله ان يعيده اليهم سالما موفقا..
اشتدت الرياح يومها وتلبّدت السماء بغيوم رمادية تنبئ بسقوط امطار غزيرة، عادت وهي تجول أرجاء المنزل تمسك بهاتفها اينما ذهبت، يعتريها القلق والتشتت… وبعد ساعات قليلة اتصل واخبرها بوصوله ترنم قلبها فرحا وهي تتحدث اليه وفجأة انقطع الاتصال فقد سببت الرياح العاتية وهطول الامطار خللا في عمل شبكة الهواتف المحمولة وحتى الانترنت انقطع تماما.
احست هيفاء بانقطاع العالم من حولها وكأنها نفيت!! وسرعان ما اجتاحها الحزن والملل، جلست مكتئبة شاردة الذهن وما لبثت لدقائق على هذه الحالة واذا بالاولاد يلتفون حولها واحتضنوها ليبثّوا فيها الدفئ والطمأنينة، حدّثها اكبرهم قائلا: امي الحبيبة سافر ابي وسيعود في القريب العاجل مكللا بالنجاح محققا ما يبتغيه من التفوق والمكسب وسنفخر به كعادتنا ان شاء الله، ما الذي يحزنك يا أمي ها نحن بجانبك ونحبك كثيرا، أيحتل أبي كل قلبك ذاك الكبير العطوف؟ الا توجد مساحة لنا فيه يا أمي!! قالها ساخرا مبتسما وسرعان ما واصلت الحديث اخته التي تصغره بسنتين: اجل يا أمي وكأن أبي يحتكرك له فقط! انتِ الجنة بالنسبة الينا سنحتج على هذا الاحتكار، فتعالت اصواتهم كبيرا وصغيرا: اجل اجل سنطالب بحبنا يا أمي، حينها ضحكوا كثيرا وتحدثوا كثيرا بامور لم يسبق لها ان تحدثت فيها معهم..
شعرت بالدهشة والتعجب من حديثهم وقالت في نفسها :
(أين انا) من كل ذلك، ها قد كبروا اولادي ولا زلت اراهم صغارا، اجهدت نفسي في ارشادهم وتعليمهم حسن السلوك والمظهر وفرضت عليهم كل ما اريده انا ان يكونوا، متناسية لمشاعرهم غير مكترثة لآرائهم وما تختلجه صدورهم، ها قد صدمت اليوم لأتعرف على اولادي كل واحد منهم لديه شخصية ورؤية مختلفة كيف لي ان تجاهلت كل هذه الامور المهمة في حياتهم!! اختلطت احاسيسها بين السعادة واللوم والدهشة والندم لغفلتها..
حلّ المساء وارتفع صوت الآذان، اسرعت هيفاء للوضوء وما ان غسلت وجهها استوقفتها المرآة وكأنها تقف امامها لأول مرة، تمعنت النظر لترى خطوط وتجاعيد خفيفة قد ظهرت وغيّرت من ملامحها الجميلة وهي لم تنتبه لذلك من قبل! لسرعة حركتها ونشاطها الدائم تعجبت من امرها وقالت: (من انا) فادركت بانها قد تجاوزت ربيع العمر وحل عليها خريفه دون ان تشعر !!
اكملت وضوءها واقبلت بوجهها لله تعالى، أدت فرضها بخشوع هذه المرة، توسلت بالله ورجته كثيرا ان يغفر لها غفلتها وتقصيرها فهي كانت تقف بين يديه وكأنها ترتّل محفوظة تعيدها كل يوم كأي عمل تقوم به ولا تؤدي فروضها بصورة صحيحة تجاه خالقها الذي منّ عليها بفضله وكرمه، ومن الذي سينفعها في اليوم الآخر وما الذي ستأخذه معها من هذه الحياة الفانية و(الى اين) ستوصلها الايام؟..
توجد هناك فئة كبيرة من الناس في وقتنا الحاضر قد اعتادوا على نظام معين في حياتهم وروتين يكرر في كل يوم ويستسيغون ذلك فتنطوي بهم السنين دون ان يشعروا، وبات الكثيرين منهم يفضلون ملازمة المنزل وقد استعبدتهم التكنولوجيا وما لها من وسائل كثيرة تتيح لهم فرص الراحة وتزيح عنهم بعض التعب وان كان قليلا ومفيدا، فمثلا بدل ان يخرجوا لزيارة الاقارب يتصلون بهم ويتواصلون معهم من خلال ذاك العالم الافتراضي فقد شاع هذا الامر مؤخرا واصبحت العلاقات الاجتماعية على ارض الواقع شبه معدومة! ولا احد يكترث ما لهذه الظاهرة من سلبيات على واقع المجتمع فقد اوصى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصلة الرحم وقال: (لا يدخل الجنة قاطع)، فشتان ما بين حديثنا عبر الموجات الصوتية وبين اجتماعنا كعائلة مترابطة متحابة تصغي لبعضها البعض وتتعاون على البر والتقوى…
لم يخلقنا الله في هذه الحياة عبثا لنكون كالدمى تحركنا خيوط الايام بما تحمله كيفما شاءت فإن اعمارنا قصيرة جدا لا بد لنا ان نعيشها بأحسن صورة واحسن عمل والغريب في الامر ان الكثير منا عندما يقبل على انجاز شيء ما يردد مقولة سيد البلغاء الامام علي عليه افضل الصلاة والسلام حينما قال: (الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك) دون علم لنا بعمق هذه المقولة وما كان يقصد بها امير المؤمنين، فلسنا في هذه الحياة إلا ضيوف عابرين لن يبقى منا سوى جميل الاثر ولن نأخذ معنا غير اعمالنا الصالحة..
فما دمت حيا لا زالت لديك الفرصة، استفق من غفلتك؛ اعبد الله حق عبادته، اعمل شيئا تؤجر عليه وتُذكر به بالرحمة لك ولوالديك، صل رحمك، انهى عن المنكر، ثقف نفسك وهذّبها، اقرأ الكتب المفيدة، اكتب ان استطعت، ارفع صوتك بوجه الظالم وانشر المحبة، إدعوا للسلام، حاسب نفسك، لا تسأم من حياتك فلكل منا قدر وقضاء يستطع بحسن ذكره لله ان يحصل منه على اللطف فيه، حاسب نفسك كل يوم وقل: من انا اين انا والى اين... اقتل ذلك الروتين قبل ان يقتلك دون ان تشعر.
اضافةتعليق
التعليقات