جلسةُ مع الذات وأحزانها، يُتيحها يوم العاشر من شهر محرم الحرام من كل عام هجري جديد في نهاره وظهيرته على وجه الخصوص. أن يحصل المرء على وقتِ خُلوة مع نفسه، لكنها هذه المرة خُلوة مُنكّهة بالحُسين، ولمن يعرفه حق المعرفة سيُدرك أيُّ وَحشة تحمِلُ نكهة رجل عظيم مثله. يحتاج المرء الحُزن من حينٍ لآخر، فلا يُمكن الوصول لأقصى بُعد في الروح إلا حين يحزن القلب، فلا يُرى ضياء الروح إلا حين تزداد العُتمة من حولِها.
"الوجه المتألم مكان لحضور بلاء الله.
والوجه مظهر جمال
والألم مظهر جلال
واجتماع القهر والجمال في نفس المكان ابتلاء لا يُبتلى به إلا من يُريد الله أن يختبر توازن معارفه وسيره وسلوكه.
الم تبتّل زينب بوجه الحُسين؟"(1)
لم يعدْ لدينا رفاهيةُ الحزن، حيثُ إننا في سباقٍ هائل مع الوقت، لا نقف ولو لخمس دقائق لنلتفت لغمامةٍ داكنة عبرناها في زخمٍ دنيوي خانق. فلا يجدُ أحدنا وقتاً ليفرش أمامه آلامه وأحزانه، لطالما ضمّدنا جراحاً نازفة غير مبالين بالدماء التي تسيل من موضع الجُرح. نكابرُ أحياناً ويُجبرنا اللهو الحياتيّ والسباق اليومي لتجاهل تلك الكآبة الروحية الساحقة فينا، نظنُ أننا نمنح أنفسنا مكافأة عُظمى وصحة نفسية وبدنية سنكون في امتنان لها مستقبلاً، لكن ما تلك إلا أغطية متراكمة نغلّف بها أحزاناً تريد أن تنفجر وتثور، تريد أن تتحول إلى دمع وبكاء يشابه حدة بكاء الأطفال ونُواح الثكالى.
يمنحنا يوم عاشوراء فرصة لا تُفوّت، فرصة للتعمق أكثر بصاحب المصاب، وفحوى رسالته تلك التي حدث بسببها هذا اليوم الأليم، أن نتمعن في ملامح الحُزن الممزوج بالتسليم، الوجع المُختلط بالثقة بالسماء وخالقها، القدرة الفذة في توديع الدنيا والتخلي عنها، تلك الدُنيا بكل مُغرياتها، بكل بُهرجها وألوانها، تُنادي الناس ليتمتعوا بها، قبل أن يُدركهم الموت، أن يأكلوا ويشربوا ويتمتعوا ويُتفاخروا بالنسب والمال والبنون والنساء والجمال والصحة، أي قُدرةٍ هذه تلك التي حملها قلب مثل قلب الحُسين (عليه السلام) فآثر بها الآخرة على الدُنيا! أيُ مغريات رأى في وجه الموت فعشقه وارتضاه وقدّم نفسه قُرباناً له؟ وما الذي رآه العباس في الماء، فلم يشرب؟ بعد أن تقطّع كبده عطشاً، كيف لم يختر الدنيا ولذائذها؟ إنهُ يومٌ للتفكر بكل هذا، بكل ما لا يسع العقل أن يستوعبه وهو غارق في بشريّته المدقعة، وهو يداومُ على طلب الدنيا والتشبع بها.
"عاشوراء هي أنتَ.. هي ما تريد.
هي أنت تبحثُ عن الليلِ، كي تتخذه لك جملاً.
وهي أنتَ، ترمي ببقية الماء من كفّيك.. وتحملُ الفرات بين حضنيك.. لمن لا ماء له.
وهي أنتَ، تنزع رداء الصلاة عنك، وتترك ظهر ابن عقيلٍ مشرّعاً لابن جلّا وطلاع الثنايا.
وهي أنتَ، تسير مكسور القلبِ لتلملمَ بحيائكَ غبارَ الغرباء عن ظلّ زينب.
وهي أنت أيضاً، محاصَراً بالجوع والعطش، لكنّك تحاصرهم ببصيرةِ أبناء الأنبياء.
وهي أنتَ، تملكُ قرارَ قتلِ الحسينِ، لأنّك لا تمتلكُ شجاعة أن تكون حراً.
وهي أنتَ وما تريدُ، تقرِّرُ إبقاءَ بوابة الحب للهِ، بركعتين من جلوسٍ في سويداء الصحراء..
لأنَّ، كل كربلاء كانت، من أجلِ أن "تحبَّ الله" كما يحبّ الله أن تحبّه.. لا كما تريد!
وعاشوراء هي أنت وما تريد."(2)
فها هو يومٌ فريد لن يتكرر إلا بعد عامِ هجريّ كامل، هذه هي فرصتك أنت الإنسان اللاهي، فكل شيء سينتظرك ويبقى في مكانه في القادم من الأيام، طعامك وشرابك ومنزلك وأهلك، لكن عاشوراء لن يكون موجوداً، فهل أنت من ستُحيي ذكرى عاشوراء، أم هي هي التي ستُحييك؟ فالسعيد بحق هو من يخرجُ من عاشوراء حياً.
(1)، (2) الشيخ محمد باقر كجك.
اضافةتعليق
التعليقات