ما كنت أريد أن أكتب هذا الفصل بشكله المستقل أبداً، وما كنت أريد أيضاً أن أتوقف طويلاً عند هذه النقطة وذلك لعدة أسباب: السبب الأول هو أن أسبقية علي في الإيمان قضية لا يستطيع أحد أن ينكرها إلا إذا كان معانداً أو منكراً أو أعمى بصيرة. فقضية سابقته في الإيمان وبكل ما جاء به الرسول المصطفى له من تعاليم وقيم سماوية هي بلا شك
من الأمور المسلم بها عند كافة المسلمين.
أما السبب الثاني فهو إمكانية ذكر مسألة إيمانه في معرض الحديث عن جوانب أخرى من شخصيته الكريمة مما لا يستدعي أن أفرد باباً مستقلاً لما قاله المفكرون والأدباء المسيحيون عن إيمانه المبكر والسابق على إيمان كل المسلمين شيباً وشباناً. ولكن سرعان ما عدلت عن الفكرة إلى نقيضها وذلك بتأثير قوي وحاسم من المفكرين المسيحيين أنفسهم، فقد وجدت تأكيداً شديداً في كتب أولئك المسيحيين المعاصرين على فكرة إيمان الإمام علي المبكر وعلى أنه السباق إلى إعلان إيمانه وتصديقه بالرسالة السماوية الأخيرة التي بعث الله بها هداية ونوراً لكل الناس أجمعين.
الإمام علي الام في الفكر المسيحي المعاصر
وعلى أية حال، فسوف نقوم سوية بجولة سريعة في رحاب مؤلفاتهم لنقرأ ما كتبوه عن إيمانه وعن فلسفة ذلك الإيمان العميق بما جاء به وحي السماء إلى أهل الأرض.
وقبل أن ندخل في جوهر موضوعنا ، أحب أن أذكر أن المفكر الفرنسي (فولتير) الذي أثر على الفكر الأوروبي قاطبة خلال القرن الثامن عشر حتى أنه، وبسبب تأثيره الفكري الشديد على ذلك العصر، فقد أعطى اسمه لذلك القرن من الزمان حتى أنه عرف باسم (عصر فولتير)، قد قال عبارة جريئة هاجم فيها التعصب الديني الأعمى المبني على العاطفة لا على العقل، وما تلك العبارة الجريئة إلا قوله: (إن الذي يعتنق ديناً من الأديان من غير تفكير شأن الأغلبية من الناس، لهو أشبه بالثور الذي يستسلم للنير ويحمله على عنقه راضياً مختاراً).
ولا نعتقد أن فولتير قد جانب الصواب أبداً، ولكن الذي دعاني إلى الاستشهاد بهذه المقولة القصيرة والمعبرة للفيلسوف الفرنسي فولتير هو أن البعض من المفكرين والدعاة المسلمين لا يزال حتى أيامنا هذه يحاول، بدافع التعصب الأعمى، أن يقلل من أهمية إيمان علي اللام، معللا ذلك بأنه كان أول من آمن (من الصبيان) وليس من الرجال محاولين بذلك أن يقولوا لعامة الناس إن إيمان علي الام المبكر كان نابعاً من العاطفة وليس من العقل. وبالتأكيد، فإن هذا التعصب من قبل مناوئي الإمام علي علم في الماضي والحاضر ما هو إلا محاولة يائسة منهم للتخفيف و الانتقاص من منزلة الإمام ومكانته من جهة، ولرفع شأن من هم دونه في كل الصفات والفضائل من جهة أخرى. ويمكننا أن نشبه ذلك المتعصب الأعمى الذي يريد أن يحط من قدر الإمام علي الام كي يرفع من قدر من هم دونه بمن يحاول أن يقنع الناس أن الشمس تستمد نورها من كوكب ضئيل يقبع بعيداً بين آلاف الكواكب الأخرى هي التي "المنتشرة في سمائنا وليس العكس؟؟!! وعلى كل حال، فإن الشيء اللافت للنظر في كتابات المسيحيين المعاصرين عن مسألة إيمان علي هو تأكيدهم الدائم على وجود علاقة قوية بين إيمان علي وإيمان أبيه أبي طالب، شيخ البطحاء ومؤمن قريش، فالأديب أو المفكر المسيحي لا يرى في شخصية أبي طالب إلا صورة الرجل المؤمن الذي يدفع أولاده لحمل أعباء الرسالة الإسلامية مع ابن عمهم الذي اصطفاه الله سبحانه وتعالى وجعله للناس نبراسا مبشراً و نذيراً داعياً إلى الله بإذنه.
وهنا يمكن أن يتبادر إلى ذهن أي واحد منا السؤال التالي:
ماذا بشأن حج عليه السلام إلى الكعبة التي ولد فيها وظهر منها، وهل لذلك علاقة بإيمانه؟
في الحقيقة، إن الإمام عليه السلام بالمنطق السليم قد ولد مؤمناً بنفس الوقت في لحظة ولادته هي لحظة حجته، أما ما يتعلق بإيمانه، فهذا أمر سنحيله إلى بعض كتب الرواة والمؤرخين من أجل أن نعرف القارئ على التاريخ الحقيقي لإيمان علي في السماء قبل إيمانه على الأرض.
فعلى سبيل المثال، ينقل لنا المحب الطبري في كتابه (الرياض النضرة) حديثاً لخير الأنام، الرسول المصطفى وهو أول خلق الله وخاتم رسله، يقول فيه: كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر
ألف عام وهناك أيضاً جملة من الأحاديث النبوية الشريفة المشابهة لمعنى الحديث الذي ذكرناه الآن والتي تؤكد كلها على قدم النور المحمدي - السابق على وجود ، عن النبي أنه قال: إن الله خلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق آدم حين لا سماء مبنية ولا أرض مدحية ولا ظلمة ولا نور ولا شمس ولا قمر ولا جنة ولا نار.
ومن خلال هذين الحديثين النورين اللذين أوردناهما على سبيل المثال لا الحصر، تستطيع أن تقول إن الذي خلق نوره قبل آدم، لا حاجة لنا الإثبات إيمانه لأن نوره هو في الحقيقة نور الإيمان وبالتالي، فإن المعادلة الإيمانية بين علي وآدم تصبح كالتالي: بالنسبة إلينا، نحن البشر، إن آدم أقدم من علي أيام في الوجود المكاني الأرضي، بينما الإمام علي أقدم من آدم في الوجود الزماني السماوي ادم بالنسبة إلينا أقدم في الظهور، بينما الإمام علي سابق على آدم بالنور.
وإذا كان المستشرق المعاصر كلود كاهن يرى أن الضمان الأقوى والوحيد لبقاء الإسلام حياً على قيد الحياة ومسرح الوجود هو الإمام علي دون سواه، فإن الدكتور المصري (نظمي لوقا) يرى أن أبا طالب، والد الإمام علي، يمثل في الرسالة الإسلامية دور الجندي المجهول لأنه كان دائماً نعم الكفيل والمحامي عن ابن أخيه صاحب الرسالة السماوية الخالدة التي آمن بها ودفع ابن أخيه للتشبث بدينه السماوي قائلاً له بكل إيمان وقوة: "اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء تكرهه أبداً".
وقد أراد الدكتور المفكر (لوقا) أن يبين للقارئ من خلال ذلك أن أبا طالب علم ، عم الرسول ووالد الإمام علي كان سنداً قوياً ركناً وثيقاً يلجأ إليه الرسول وبالعودة إلى جوهر موضوعنا ثانية، نرى أن غوته يصف الإمام عليان في كتابه (الشعر والحقيقة) بالمؤمن الأول بالرسالة السماوية إلى جانب السيدة خديجة زوجة الرسول محمد ، ويصف قوته ذلك الإيمان المبدئي من الإمام علي التهم بأنه الانحياز الكلي والمطلق إلى رسالة محمد ، وغني عن القول إن غوته لا يقول كما يقول بعض المسلمين المتعصبين إن علياً كان أول مسلم من (الصبيان) فهو أرفع وأسمى أن يتناول تلك القضايا التي لا تعكس إلا ضحالة فكر صاحبها. ولا بأس هنا في أن نذكر شيئاً منها، كما ذكرتها الأستاذة (كاتارينا مومزن) أستاذة الأدب الألماني في جامعة استانفورد الأمريكية في كتابها القيم (غوته والعالم العربي).
بل على العكس من ذلك تماماً، فقد كتب غوته مسرحية قصيرة تفيض رقة وعذوبة، وتتناول تلك المسرحية دور الإمام علي الإيماني إلى جانب زوجته الزهراء فاطمة بنت محمد في محاولتها الصادقة والدؤوبة لجعل الدين الجديد ينتشر خارج حدود القبيلة والعشيرة.
اضافةتعليق
التعليقات