إنبعثَ شعاعُ الشمس المُضلّلة بسحابٍ ناصع البياض من زجاج نافذتها، نهضت وسارعت لتستمتع بجوٍ لطيف، انساب لرئتيها هواء عذب، استنشقته بارتياح وعلَتْ وجهها الابتسامة.
كم هو شعورٌ جميل، أيام مختلفة وكأنَّ الهواء غيرَ الهواء، هدوءٌ وسكينة تعمُ الأرجاء. عادت تتصفح صفحات كتابها، تتأمل الكلمة، تُدخلها ماكنة الفكر، تتساءل مع نفسها أجواء هذا الشهر مختلفة قد أنزل الباري على خلقه فيوضات كثيرة، والأمر الأهم أنَّه أنزل كلماته في هذا الشهر المبارك.
تُرى ما لهذه الأيام من خصوصية إذ جعل نزول آياته في لياليها، الكتاب المُحكم الذي عجزت أهل البلاغة أن تأتي بآيةٍ مثله، الكتاب الذي يحمل علوم الأولين والآخرين لو فقهه البشر.
لكن مالي أرى غفلةً عن هذا الأمر العظيم، وكأن الشهر الفضيل للتسلية بالبرامج وموائد الطعام.
فما إن تقترب بدايته حتى يُسارع الجميع للإعداد والتجهيز لموائد الطعام ويتفننون بصنوفها. لكنِّي لم أجد الكثير ممّن يهتم بالاغتراف من مائدة القرآن.
المائدة التي تُغذي العقل، أ ليس العقل يحتاج لغذاء كما الجسد؟!، فما بال الكثير يهتمون لغذاء الجسد دون العقل؛ وبالعقلِ مُيِّزوا وبه ترتفعُ درجاتهم. وهذا ما ورد عن "رسول الله (صلى الله عليه وآله) - لقومٍ أثنوا على رجل
-:
كيف عقل الرجل؟ قالوا: يا رسول الله نُخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير، وتسألنا عن عقله؟! فقال: إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غدًا في الدرجات وينالون الزُلفى من ربهم على قدرِ عقولهم"(1)
وأذكرُ حديثاً قرأتَه لمولاي الحسن (عليه السلام) يقول فيه:
"إنّما يُجزى العبادُ يوم القيامة على قدرِ عقولهم"(2).
ألمْ يُعطي الله الكرامة للإنسان وفضّله على مخلوقاته بالعقل!، فمالي أرى الناس تركت عقولها واهتمت في مأكولها. بينما غذاء العقل هو ما تحتاجه أكثر من غذاء الجسم، بل حتى غذاء الجسد إن لم يكن غذاءاً منظماً ومعقولًا، فإنَّه يسبب المرض الذي يُضعف الجسد.
جالَتْ بنظرها هنا وهناك علّها تجد الحلقات التي تُعقد من أجل إعمال العقل بالفكر. لم تجد ضالتها، وعادت تنظر وتتصفح وريقات الكتاب.
مرتْ أمامها كلمات للإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): "إنَّ الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، فيستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وقصر آخرون فخابوا"(3).
أخذت تتفكر، ما معنى قول الإمام وما الذي يوضحه لنا، فكَّكت الكلمات وبحثت في معجم اللغة عن معنى مضمار فوجدته يعني:
"الجمع : مَضاميرُ
المِضْمَار : المكان تضمِّرَ فيه الخيلُ أَو تتسابق.
المِضْمَارُ: موضع تُرْبَط فيه الخيلُ ويعتنى بها.
المِضْمَارُ: مجال، ميدان، حقل.
ملعب رياضيّ، بناء كبير عادة، مُخصَّص للألعاب الرياضيَّة، ذو مقاعد متدرِّجة يجلس عليها المتفرِّجون." معجم المعاني.
هذا يعني أنَّ الله قد جعل لنا شهرُ رمضان ميداناً للسباق، سباق لطاعته، لرحمته، لنيل فيوضاته، ليكونَ زاداً لبقيةِ الشهور؛ لكنا نتسابق في موائد الطعام وفي عدد ختمات القرآن دون أن نعي القرآن، وتتسابق القنوات في برامجها لنيل المشاهدات فتفوز بالمشاهدين لتربح هي على حساب ضعف عقلهم وقلة زاده.
فالعقل غذائه العلم والمعرفة، المطالعة مع التفكر والتدبر بالغذاء، ورد عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): " عجبت لمن يتفكر في مأكوله، كيف لا يتفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه، ويودع صدره ما يرديه ."(4)
وقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام):
"اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لاَ عَقْلَ رِوَايَةٍ، فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ".(5)
وتمام العقل أنْ يربطَ الإنسان حياته بخالقه. بتفكره وتدبره بعظيم خلقه.
حلّ وقت المساء واقترب موعد الإفطار، نهضت لتُرتل بِضعَ آياتٍ من الذكر الحكيم وبعض أدعية الشهر. جلست على سجادة صلاتها، "اَللّـهُمَّ هذا شَهْرُ رَمَضانَ الَّذي اَنْزَلْتَ فيهِ الْقُرآنَ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنات مِنَ الْهُدى وَالْفْرقانِ، وهذا شَهْرُ الصِّيامِ، وَهذا شَهْرُ الْقِيامِ، وَهذا شَهْرُ الاِنابَةِ، وَهذا شَهْرُ التَّوْبَةِ، وَهذا شَهْرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهذا شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النّارِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، وَهذا شَهْرٌ فيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتي هِيَ خَيْرٌ مِنْ اَلْفِ شَهْر، اَللّـهُمَّ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وآلِ مُحَمَّد، وَاَعِّني عَلى صِيامِهِ وَقِيامِهِ، وَسلِّمْهُ لي وَسَلِّمْني فيهِ.."(6)
اعتلى صوت الأذان، اجتمع الأهل والأحبة حول مائدة الإفطار.. تأملت منظرهم وهم مُستبشرون بإكمالهم صوم اليوم واجتماعهم على المائدة.
قالت مع نفسها، ماذا لو اجتمعنا دوماً على مائدة نُغذي منها عقولنا، فنستنير بطرق الوصول.
...........................................
اضافةتعليق
التعليقات