دخلنا لباب من أبواب الله المشرَّعة، يُحكى أنها أوسع باب، حيث تستطيع ضم جميع الوفود داخلها مهما بلغت أعدادهم اللامتناهية، لكن بشروط كُثُر منها:
أولاً: الإخلاص
فالإخلاص بالعمل ولو بجهدٍ بسيط ينمي زروع عالية الثمار، بمجرد الاقبال لله بإخلاص تام ونقاء صافٍ، ولا ننسى أن كل ما يكون لله ينمو تلقائياً، فالصيام ليس مجرد امساك عن الأكل والشراب، بل هو منع النفس عن كافة المحرمات، وتحدي المرء لذاته بمقاومته لذات النفس بكل معانيها، اخلاصاً لله وتقرباً له بإصرار لتحدي المعاصي والذنوب، فكلما يرى الله الانسان يسعى يقويه لمساعيه ويساعده بالتغلب على نفسه الأمارة بالسوء فقد قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ)، (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) النازعات ٤٠، ٤١.
ومفارقة الإنسان للذنوب لا تكون إلا بسعي حقيقي منه لمقاومة ذّاتِه الشخصية فلا ننسى قوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ)،(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ)، (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى)النجم ٣٩، ٤٠، ٤١.
وأبسط مثال ما يُعرض على شاشات التلفاز من غناء وتمايل واباحة المحرمات وأعمال لا تمت لأي شيء من العبادة وقت الافطار حصراً وكأنما متعمدين وقت عرضها بوقت الآذان وتكبير الله اكبر في المشارق والمغارب، هنا الانسان يقع ما بين كفتين بعد انقطاع يوم كامل عن الأكل والشراب، إما يصغي للشيطان وأعوانه ويستمع لملاهي الشياطين بوقت استجابة الدعاء وفتح أبواب الرحمة بكل السماء بشهرٍ تميز عن أقرانه من الشهور بتنزيل القرآن على قلب الخاتم الرسول فأصبح أفضل الشهور ولياليه أفضل الليالي وأيامه أفضل الأيام، اجتاز كل الخير فأصبح حتى نفس الصائم وهو نائم عبادة، والنظر إلى حروف القرآن الكريم عبادة، والترتيل لكتاب الله عبادة، وتحضير الفطور للصائمين عبادة وانتظار ظهور الفرج عبادة، وتنفيس الكرب عن وجه المؤمنين عبادة، والصدقة وتفقد المحتاجين عبادة، وحسن الجوار عبادة، فتنوع فيه الأجر والثواب كتنوع الطعام والشراب، لكن الذي يجمح أبواب شهواته ويُشّرِع أبواب قلبه لله وحده لا شريك له، حتماً سينال تلك الفيوضات الإلهية وبجدارة تامة.
ثانياً: القربة لله تعالى
وهي أيضاً من الأعمال المحببة لله تعالى بهذا الشهر الفضيل تزيد الجاذبية للنفحات الرحمانية كانجذاب الحديد للمغناطيس، فشذرات الرحمان تدخل قلب المؤمن بكل هدوء فتهمس إليه بانجذاب تام لتحرك حواسه بشفافية لامعة، فتصطجُ بريقاً ولمعاناً، وتغشاه الكرامات وتلامس قلبه الهِبّات الإلهية، وتغطيه الطمأنينة فقد قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد ٢٨.
فيصبح قلبه مؤمناً خاشعاً متصدعاً من ذكر الله، فنرى المؤمن في هكذا جو يُهّون الله كل ما نزَّل به من بلاء وشدّة قدَّرهما الله تعالى عليه، وجُلَّ ما نرى المؤمن الحقيقي قد ابتلاه الله من ابتلاءات الدنيا قد يكون بماله أو ولده أو صحته أو بكل ما أعطاه ربه دفعة واحدة فلا يكون رفيقه إلا الصبر والإحتساب بالله خيراً، فنرى مشهد السيدة زينب (عليها السلام) عندما قالت وهي تشاهد الجثث التي تعود لأحبائها على أرض المعركة بقلبٍ يملؤه الإيمان وحسن الظن بالله [إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضا]، فقمة التسليم بقضاء الله وقدره هو الانصياع لأوامره تعالى وأقداره المحتومة، فهذا قلب الإيمان وعاموده الشامخ.
ثالثاً: محاربة النفس الأمارة بالسوء
فالإنسان بصراعٍ دائم ما بين قلبه وعقله فإن أطاع عقله وجمح غريزته أصبح أفضل من الملائكة، حيث ميّز الله تعالى الملائكة بالعقل فقط دون الغريزة، واما لو أطاع قلبه وغريزته وهواه وجمح عقله فقد أصبح أدنى مرتبة من الحيوان لأن الله تعالى ميّز الحيوان بغريزته فقط، فالإنسان بيده إما يجتاز مرتبة الملائكة بعقله وقلبه أو يجتاح مرتبة الحيوان بتدني ذريع، فالخيار لذاته وليس لأحد سواه، هو المسؤول عن تقرير مصيره والارتقاء بذاته، حيث حباه الله منازل رفعية وقمم سامية بعقله فقد قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الإسراء ٧٠.
وما يلفت الانتباه بتركيز الله تعالى على العقل والعقلاء وتدبير العقول في القرآن الكريم ومن هذه الآيات الكريمة قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُون) البقرة ١٧٠، وقال تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( البقرة ١٦٤.
فهنا نجد أن الباري عزوجل دلَّ على وجوده بالمعنى العقلائي، وقال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يعقلون) البقرة ١٧١، فهنا جعل الذين لا يستخدمون عقولهم كالمغشي عليه كأنه فاقد لحواسه ولا يدرك ما حوله، وكذلك وصف القرآن الكريم حال هؤلاء الفرقة بأنهم أضل من الأنعام بقوله تعالى: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا( الفرقان ٤٤، ليس هذا فحسب بل وصفهم القرآن بصفة أكثر مرارة وقسوة بقوله تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ( الأنفال ٢٢.
هكذا العقل فهو ميزان الإنسان السوي المُكرَّم من قِبل الله تعالى الحاصل على الكرامات والهبات والمجتاز مكائد الشياطين وحب الذات والشهوات والمُتَغلِب على حب النفس والأنا، فكلما كبُر عمله لله تصاغر في عينه ذلك العمل ويبقى راجياً شفاعة ورضا من الله عزوجل ليؤدب نفسه ويروضها على الطاعة الدائمة لربها. فليكن هذا الشهر الفضيل متميزاً بأعمال خالصة لله تعالى، خالية من الرياء والنفاق، وقلوبٍ خابتة قانتة وجلة من خالقها، لا تهوى من هذه الدنيا إلا الحصاد للآخرة والعمل بجدٍ لاجتياز العلامات الفاخرة، والمتاع بخير زادٍ لرحلة المعاد، فالحياة فرص وما ذهب لن يعود، وغيرنا الكثير بحاجة لهذه الفرص التي نعيشها حالياً، فكم قالوا ربنا ارجعون لعلنا نعمل صالحاً فأجابهم الرب هيهات هيهات لما توعدون، لأنهم فقدوا نعمة العبادة وأحسوا بقيمتها، والمرء لا يشعر بقيمة النعم إلا بفقدانها. فلنتخلص من مراوغات الشياطين ونرتدي إحرام السعي بخير الشهور لرب النور وخالق النور ونور النور ومالك النور ومدبر الأمور ولنلبي النداء لرب السماء ونكون خير معين لإمام المتقين، فأبواب التوبة مفتوحة لكل الراغبين على الحصول لبطاقات الدخول بخير الشهور لجنان الرحمان.
اضافةتعليق
التعليقات