نضع أرواحنا في وسط أداة مُعرفة للأمور المادية أو المعنوية، تقرأ المكتوب وتنصره فيقع الكون بين طرفيها وتمر من خلالها جميع الأشياء المادية المحسوسة، فننظر إلى الدنيا برؤيتنا المحدودة التي ماسعينا لسقي بصيرتها لتزداد يقينا وكنا غافلين عن حقائق تحيا معنا ولكننا في عالم موازي يراودنا الإدراك وتهرب عنا البصيرة كقصة الرجل المخمور الذي رواها الغزالي في كتاب "كيمياء السعادة":
يحكى أنه ذات يوم خرج رجل مخمور من الحانة، وبسبب السكر واللاعقلانية، بدلاً من العودة إلى المنزل، غادر المدينة وذهب إلى الصحراء بعد فترة، وصل إلى مكان مقابر المجوس، ولأنه كان سكراناً، رأى أو واعتقد أنه تم إقامة حفل زفاف له هناك، لأنه رأى من حوله أشخاصا مع ثياب بيضاء ملقون على الأرض، ورأى امرأة برداء أبيض تقف بجانبه على الأرض، كان يعتقد أن المرأة هي العروس التي يريد الزواج منها، جلس سعيدًا على الأرض واستمر في الشرب ويده على رقبتها، وفي نفس الوقت سقط في نوم عميق مع الفرح والسعادة عندما أشرقت الشمس، استيقظ على حر الشمس، وبينما استفاق من حالة السكر السابق، تذكر مراسم الليلة السابقة ونظر حوله بسعادة، لكنه واجه مشهدًا مرعبا لأنه رأى أنه جاء إلى مقبرة المجوسيين الليلة الماضية وهو في حالة سكر، والمجوس يضعون موتاهم في مكان مرتفع على الأرض كانت تلك الملابس البيضاء هي أكفان الجثث التي كانت حوله كانت المرأة، التي يعتقد أنها عروسه وزوجته المستقبلية، امرأة عجوز ماتت قبل يوم وتم وضعها هناك، يقول الغزالي: "كان هذا المخمور في نفس المكان وفي وسط الزحام الليلة الماضية، لكنه لم يستطع أن يرى الحقيقة بسبب السكر والشرب الذي أعمى عينيه، ولكن عندما استعاد وعيه، كان قادرًا على إدراك حقيقة المشهد ومعرفة ما كان عليه من حالة بائسة.
هكذا هو الفرق بين بصرنا وبصيرتنا، فالبصيرة تجعلنا ندرك الأمور ونراها حقيقة مصحوبة بالإيمان باحثة عن اليقين وهو من أكثر الصفات التي تجعل العبد قريبا من ربه، حيث يقول الإمام علي (عليه السلام) عن المتقين في خطبة المتقين "فهم والجنة كَمن قد رأها فهم فيها منعمُون، وهم والنار كمن قد راها، فهم فيها معذبون".
فإذا وصل الإنسان إلى حالة اليقين، فمن الواضح أنه يرى الجنة والنار بالفعل، وبناءً على ذلك، فأولياء الله المخلصين لديهم البصيرة الباطنية بحيث يمكنهم فتح الستائر المظلمة للعالم الطبيعي ورؤية نشأة الآخرة، لذلك قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي بلغ أعلى درجات اليقين: "لو كشف الغِطَاءُ ما ازددت يقينا".
فأهل الجنة في الدنيا قريبون من النعمة الإلهية بعملهم المرضي لله، وبحسب هذه المرتبة كانت شدة شوقهم إلى الجنة، وشدة خوفهم من النار، وقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: «إن رسول الله صلى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفراً لونه، قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول الله موقناً، فعجب رسول الله من قوله وقال: إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟
فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظماً هواجري، فعرفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون وعلى الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون، وكأني أسمع زفير النار يدور في مسامعي. فقال رسول الله لأصحابه: هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان أما نحن ففي غفلة عن هذا وكأن لم يكن شيئاً مذكوراً.
فالإنسان في صورة ابن آدم اليوم، وغداً تنكشف له المعاني فتكون الصور في إحدى المعاني فأما الذي غلب عليه بصره وعميت بصيرته وجد نفسه في ضلال لا منجي له وأما الذي غلبت بصيرته متجها نحو اليقين فهو المنعم الذي لا خوف عليه لذلك يجب أن يراقب الانسان حركاته وسكناته ويعرف من أي المعاني هو فإن صفاته تحصل في قلبه وتبقى معه إلى يوم القيامة وإن بقى معه من جملة الباقيات الصالحات شيء فهو بذر السعادة وإن بقى معه غير ذلك فهو بذر الشقاء.
وابن آدم لا ينفك ولا ينفصل عن حركة أو سكون وقلبه مثل الزجاج وأخلاق السوء كالدخان فإذا وصل إليه ذلك أظلم عليه طريق السعادة، وأخلاق الحسن كالنور فإذا وصل إلى القلب طهره من ظلم المعاصي، حيث ذكر عز وجل في محكم كتابه {ألآ إِن أوليَآءَ اللَه لاَخَوفٌ عليهِمْ وَلاَ هُمْ يَحزَنونَ* الَّذِينَ ءَامَنوا وَكانوا يَتقُون}، أي أن غاية البلوغ العلمي والفكري بنحو مطلق لمن كان قصير النظر، وللذين يذكرون الله دائماً ستكون في مكان آخر، فالتحرك نحو الله، ورفع الحجب النفسانية لا يتحققان بدون الإعراض عن الدنيا وكسر صولة الشهوات، وقطع الارتباط مع عالم المجاز، والاعتبار.
اضافةتعليق
التعليقات