من الممكن أن يقال: إن السيدة فاطمة الزهراء الزاهدة عن الدنيا وزخارفها، والتي كانت بمعزل عن الدنيا ومغريات الحياة ما الذي دعاها إلى هذه النهضة وإلى هذا السعي المتواصل والجهود المستمرة في طلب حقوقها؟
وما سبب هذا الإصرار والمتابعة بطلب فدك والاهتمام بتلك الأراضي والنخيل مع ما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من علو النفس وسمو المقام؟
وما الداعي إلى طلب الدنيا التي كانت أزهد عندهم من عفطة عنز وأحقر من عظم خنزير في فم مجذوم، وأهون من جناح بعوضة؟ وما الدافع بسيدة نساء العالمين أن تتكلف هذا التكليف، وتتجسم هذه الصعوبات المجهدة للمطالبة بأراضيها وهي تعلم أن مساعيها تبوء بالفشل وأنها لا تستطيع التغلب على الموقف، ولا تتمكن من انتزاع تلك الأراضي من المغتصبين؟
هذه تصورات يمكن أن تتبادر إلى الأذهان حول الموضوع أولاً: أن السلطة حينما صادرت أموال السيدة فاطمة الزهراء وجعلتها في ميزانية الدولة بالاصطلاح الحديث كان هدفهم تضعيف جانب أهل البيت، أرادوا أن يحاربوا علياً محاربة اقتصادية، أرادوا أن يكون علي فقيراً حتى لا يلتف الناس حوله، ولا يكون له شأن على الصعيد الاقتصادي، وهذه سياسة أراد المنافقون تنفيذها في حق رسول الله حين قالوا: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله.
ثانياً: لم تكن أراضي فدك قليلة الإنتاج، ضئيلة الغلات بل كان لها وارد كثير يعبأ به، بل ذكر ابن أبي الحديد أن نخيلها كانت مثل نخيل الكوفة في زمان ابن أبي الحديد وذكر الشيخ المجلسي عن كشف المحجة أن وارد فدك كان أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة، وفي رواية أخرى سبعين دينار ولعل هذا الاختلاف في واردها حسب اختلافهم السنين ألف وعلى كل تقدير فهذه ثروة طائلة واسعة، لا يصح التغاضي عنها.
ثالثاً: إنها كانت تطالب من وراء المطالبة بفدك الخلافة والسلطة لزوجها علي بن أبي طالب، تلك السلطة العـامـة والـولايـة الكبرى التي كانت لأبيها رسول الله عنده وهي فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه قال: سألت علي بن الفارقي، مدرّس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟.
قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك صادقة؟ فتبسم، ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته قال: لو أعطاها اليوم فدك، بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار، والموافقة بشيء، لأنه يكون قد أسجل على نفسه بأنهـا صادقة فيما تدّعي، كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة وشهود.
رابعاً: الحق يُطلب ولا يُعطى، فلا بد للإنسان المغصوب منه ماله أن يطالب بحقه، لأنه حقه، حتى وإن كان مستغنياً عن ذلك المال وزاهدا فيه، وذلك لا ينافي الزهد وترك الدنيا، ولا ينبغي السكوت عن الحق.
خامساً : إن الإنسان وإن كان زاهداً فى الدنيا راغبا في الآخرة ذلك يحتاج إلى المال ليصلح به شأنه، ويحفظ به ماء وجهه فإنه مع ويصل به رحمه، ويصرفه في سبيل الله كما تقتضيه الحكمة.
أما ترى رسول الله وهو أزهد الزهاد كيف انتفع بأموال خديجة في سبيل تقوية الإسلام؟ كما مر كلامهم حول أموال خديجة.
سادساً: قد تقتضي الحكمة أن يطالب الإنسان بحقه المغصوب، فإن الأمر لا يخلو من أحد وجهين:
إما أن يفوز الإنسان ويظفر بما يريد وهو المطلوب وبه يتحقق هدفه من المطالبة، وإما أن لا يفوز في مطالبته فلن يظفر بالمال، فهو إذ ذاك قد أبدى ظلامته، وأعلن للناس أنه مظلوم، وأن أمواله غصبت منه، هذا وخاصة إذا كان الغاصب ممن يدّعي الصلاح والفلاح، ويتظاهر بالديانة والتقوى، فإن المظلوم يعرّفه للأجيال أنه غير صادق فيما يدعي.
سابعاً: إن حملة المبادىء يتشبثون بشتى الوسائل الصحيحة لجلب القلوب إليهم، فهناك من يجلب القلوب بالمال أو بالأخلاق أو بالوعود وأشباه ذلك ولكن أفضل الوسائل لجلب القلوب قلوب كافة الطبقات هو التظلم وإظهار المظلومية فإن القلوب تعطف على المظلوم كائناً من كان، وتشمئز من الظالم كائناً من كان.
وهذه خطة ناجحة وناجعة لتحقيق أهداف حملة المبادىء الذين يريدون إيجاد الوعي في النفوس عن طريق جلب القلوب إليهم وهناك أسباب ودواع أُخرى لا مجال لذكرها.
لهذه الأسباب قامت السيدة فاطمة الزهراء وتوجهت نحو مسجد أبيها رسول الله لا لأجل المطالبة بحقها إنها لم تذهب إلى دار أبي بكر ليقع الحوار بينها وبينه فقط، بل اختارت المكان الأنسب وهو المركز الإسلامي يومذاك، ومجمع المسلمين حينذاك، وهو مسجد رسول الله.
كما وأنها اختارت الزمان المناسب أيضاً ليكون المسجد غاضاً بالناس على اختلاف طبقاتهم من المهاجرين والأنصار ولم تخرج وحدها إلى المسجد، بل خرجت في جماعة من النساء، وكأنها في مسيرة نسائية، وقبل ذلك تقرر اختيار موضع من المسجد الجلوس بضعة رسول الله وحبيبته، وعلّقوا ستراً لتجلس السيدة فاطمة خلف الستر، إذ هي فخر المخدرات وسيدة المحجبات، كانت هذه النقاط مهمة جداً، واستعد أبو بكر لاستماع احتجاج سيدة نساء العالمين، وابنة أفصح من نطق بالضاد وأعلم امرأة في العالم كله، خطبت السيدة فاطمة الزهراء خطبة ارتجالية، منظمة، منسقة، بعيدة عن الاضطراب في الكلام، ومنزّهة عن المغالطة والمراوغة، والتهريج والتشنيع بل وعن كل ما لا يلائم عظمتها وشخصيتها الفذّة، ومكانتها السامية وتعتبر هذه الخطبة معجزة خالدة للسيدة فاطمة الزهراء وآية باهرة تدل على جانب عظيم من الثقافة الدينية التي كانت تتمتع بها الصديقة فاطمة الزهراء.
وأما الفصاحة والبلاغة، وحلاوة البيان وعذوبة المنطق، وقوة الحجة، ومتانة الدليل، وتنسيق الكلام، وإيراد أنواع الاستعارة بالكناية، وعلو المستوى، والتركيز على الهدف، وتنوع البحث، فالقلم وحده لا يستطيع استيعاب الوصف، بل لا بد من الاستعانة بذهن القارىء .
كانت السيدة فاطمة مسلّحة بسلاح الحجة الواضحة والبرهان القاطع، والدليل القوي المقنع وكان المسلمون الحاضرون في المسجد ينتظرون كلامها، ويتلهفون إلى نتيجة ذلك الحوار والاحتجاج الذي لم يسبق له مثيل إلى ذلك اليوم.
اضافةتعليق
التعليقات