باب: اسلاميات
انتظار الفرج بمفهومه الرسالي يرسو على مستويين متعاضدين: المستوى الأول، ويعني بتوطين النفس ودربتها على تلقي الأزمات بصدر رحب، وانفتاح على مكاره الزمن وعناء الشدائد، ويوحي بما يفرج ذلك بعد أزمة خانقة..
وبذلك يتجلى مدى صبر الإنسان عند المعاناة، وتبدو درجة تمحيصه لدى هذا الاختبار الصعب كما نطقت بذلك روايات أئمة أهل البيت.
فعن الإمام محمد الباقر (عليه السلام): (... لا يكون فرجنا حتى تغربلوا، ثم تغربلوا، ثم تغربلوا ـ يقولها ثلاثاً ـ حتى يذهب الله الكدر ويبقى الصفو) (1).
وتحدث جماعة عند الإمام محمد الباقر عن الحجة المنتظر، فالتفت إليهم قائلاً: (هيهات، هيهات لا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى تمخصوا، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى تميزوا، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى تغربلوا، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم إلا بعد أياس، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى يشقى من شفي، ويسعد من سعد).
فهناك غربلة، وتمييز، وتمحيص، يتضح فيها الصادق والصابر من الكاذب الهارب، والناس في هذا درجات بحسب الثبات وشدة التحمل، وقابلية الإنسان في المعاناة، وهنا تبدو إلماحة من فلسفة انتظار الفرج الاختباري، فإذا نجح المرء في هذا الامتحان كان منتظراً للفرج بالمعنى بمعناه الذي تتحدث عنه الرواية بحديث نبوي شريف يقول: (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من الله تعالى) (2).
المستوى الثاني: ويعني بإعداد النفس في صدق الترقب والترصد والانتظار، فإن من يترقب أمراً عظيماً يتهيأ له، ويعمل من أجله بقدر شوقه إليه، ويتشوق إليه بمستوى اعتداده به، ولا شيء أحب للمؤمن الصلب العقائدي من إحياء أمر آل محمد، وعملية الإحياء هذه تدعو إلى توعية الأمة واحتضان الجيل بما يتناسب معها، وتعمل على تعميق الدعوة إلى المثل العليا التي ضحوا من أجلها، وذهبوا قرابين على مذبح العقيدة، وهي مهمة صعبة المراس، ولكنها تتيسر لمن دعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فهي ضرورة ملحة لخلق المجتمع المتكامل الذي يؤمن برسالة أهل البيت بحيث تتهيأ الأجواء المناسبة فكرياً وعملياً لاستقبال ذلك الحدث العالمي بظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه).
وينبغي أن يصاحب هذين المستويين الزهد الحقيقي في المظاهر الزائلة وحطام الدنيا، والالتزام بالتقوى معياراً روحياً، ليلتقي الهدف الديني بالهدف الرسالي، وذلك من الأهمية بمكان لمعرفة فلسفة انتظار الفرج، إذن ليست الدعوة إلى انتظار الفرج نوعاً من الاتكالية على الغيب المجهول، ولا كيفية من الترهب والانعزال عن الناس، ولا مبرراً للقوقعة على الذات وعدم مجابهة الحياة، فالأمر عكس هذا كله، بل هي عمل رسالي متواصل من خلال النفس وجماعة المؤمنين في حال الغيبة، الخط الإلهي في الثبات على المبدأ مهما طال الزمن وكثر وتواصل مع البلوى.
وكان الإمام الحسن العسكري عليلا يوصي أصحابه بتقوى الله وأداء الفرائض، ويعرج على انتظار الفرج كما في وصية أوصى بها علي ابن الحسين بن بأبويه القمي، قائلاً: «... وعليك بالصبر وانتظار الفرج، فإن النبي ﷺ قال: أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج.»
وكان الإمام يطمئن الأمة بالقول: إن الأرض لا تخلو من حجة إلى يوم القيامة، ويؤكد أن الحجة ولده الإمام المهدي، وأن له غيبة وظهوراً، الغيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك المبطلون، والظهور تخفق فيه الأعلام البيض فوق رأسه بنجف الكوفة، فعن محمد بن عثمان بن سعيد العمري، يقول: سمعت أبي يقول: سئل أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه: أن الأرض لا تخلو من حجة إلى يوم القيامة، وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية؟ فقال:
إن هذا حق، كما أن النهار حق!!
فقيل له: يا ابن رسول الله فمن الحجة والإمام بعدك؟
فقال: ابني محمد هو الإمام والحجة من بعدي، ومن مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية. أما إن له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقاتون، ثم يخرج فكأني أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة.»(3)
ولعل من انتظار الفرج وفلسفته الروحية تلك الصلاة الزاكية على الحجة المنتظر من قبل أبيه ليلاً.
اضافةتعليق
التعليقات