استشهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن بلغ رسالة ربه، فنقل العرب من الشرك إلى الإسلام، وجاهد بلسانه وسيفه حتى تمكن من تكوين أمة واحدة ودولة واحدة، ولم يغادر قومه إلا وقد وضع بين أيديهم رسالة سامية، لا تقتصر أهدافها على العرب وحدهم وإنما تسعى إلى هداية بني الإنسان كافة. فكان استشهاده ذا وقع كبير على المسلمين، وأشدهُ على أهل بيته وخاصة ابنته الزهراء (عليها السلام)، ففي كل يوم من أيام الدنيا آباء يموتون، وبناتهم يُفجعن بهم، ويبكين في مصابهم.
ويحزنَّ لفقدهم إِلاَّ أنَّ نسبة الحزن والبكاء وألم المصيبة تختلف باختلاف الآباء والبنات، وباختلاف العلاقات الودية بين الأب وابنته، فهناك العدد الكثير من البنات اللاتي لا نصيب لهن من الآباء إلاّ الأبوة، وعلى هذا تكون مصيبة الأب على قلب ابنته أليمة وعميقة مبنية على قوة العلاقة وشخصية الأب العظيمة. فكيف لنا أن نستوعب العلاقة بين الزهراء عليها السلام وأبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) وسوف يسهل عليك أن تدرك علاقتهما، ومحبتها إياه لم تكن بدافع الأبوة والنبوة فقط، بل كانت السيدة فاطمة تعتبره أباً عطوفاً، ووالداً رؤوفاً، شفيقاً رحيماً، وفي الوقت نفسه رسول الله، وسيد الأنبياء والمرسلين، فهي تحترم أباها كما تحترم المرأة المسلمة العارفة نبيّها، وتعظّمه أقصى أنواع التعظيم، وأعلى درجات التفخيم والتجليل. وكانت فاطمة (عليها السلام) قد رأت في منامها ـ بعد حجة الوداع ـ أنها كانت تقرأ القرآن وفجأة وقع القرآن من يدها واختفى، فاستيقظت مرعوبة، وقصّت الرؤيا على أبيّها فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أنا، ذلك القرآن ـ يا نور عيني ـ وسرعان ما سأختفي عن الأنظار. منذ تلك الرؤيا بدأت آلام الفراق والحسرة تعصف بقلب الزهراء (عليها السلام).
ثم أخذ المرض يشتد به (صلى الله عليه وآله)، وهو مسجى على فراش المرض، والزهراء يشتد وجدها على أبيها، فتارة تحدق في وجهه الشاحب وتذرف الدموع الساخنة، وأخرى تدعو له بالسلامة. ولما ثقل واشتد حال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وحضره الموت، أخذ علي أمير المؤمنين (عليه السلام) رأسه الشريف فوضعه في حجره فأغمي عليه فكانت فاطمة (عليها السلام) تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول:
ثمال اليتامى عصمة للأرامل وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ففتح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عينيه وقال بصوت ضعيف: بنيّة قولي (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً).
فبكت طويلاً، فأومأ إليها بالدنوّ منه، فأسرّ إليها شيئاً تهلّل وجهها له، فقيل لفاطمة (عليها السلام): ما الذي أسرّ إليك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسرّى عنك به ما كنت عليه من الحزن والقلق بوفاته؟ قالت: إنّه أخبرني أنّني أول أهل بيته لحوقاً به، وأنّه لن تطول المدّة لي بعده حتى أدركه، فسرى ذلك عنّي .
وأوصاها بالصبر وعدم الجزع بعد فراقه، ثمّ بكى وقال: اللّهم أنت خليفتي في أهل بيتي، اللّهم هؤلاء وديعتي عندك وعند المؤمنين. وفجأة أغمض الرسول (صلّى الله عليه وآله) عينيه، وسكنت أنفاسه الطاهرة، وحلّقت روحه الشريفة إلى الحياة الأبدية السرمدية عند مليك مقتدر. فانهالت هموم الدنيا ومصائب الدهر على بضعة النبي (صلّى الله عليه وآله) الصدّيقة فاطمة عليها السلام، التي قضت عمرها بالآلام والهموم والغصص. وكلّ ما كانت تجد فيه الأمل والراحة هو وجود أبيها وظلاله الوارفة، وقد انهار صرح الآمال بعد هذا الحادث المدّ الجلل. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): غسلت النبي (صلى الله عليه وآله) في قميصه. فكانت فاطمة تقول: أرني القميص. فإذا شمّته غشي عليها. وذكر المجلسي في كتابه بحار الأنوار حديثاً لفضّة خادمة الزهراء عليها السلام تصف حالها والحزن المسيطر عليها بعد وفاة أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) قالت: أنه لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) افتجع له الصغير والكبير، وكثر عليه البكاء، وقل العزاء، وعظم رزؤه على الأقرباء والأصحاب والأولياء والأحباب والغرباء والأنساب، ولم تلق إلا كل باك وباكية، ونادب ونادبة، ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب، والأقرباء والأحباب، أشد حزنا وأعظم بكاء وانتحابا من مولاتي فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وكان حزنها يتجدد ويزيد، وبكاؤها يشتد.
فجلست سبعة أيام لا يهدأ لها أنين، ولا يسكن منها الحنين، كل يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأول، فلما كان في اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن، فلم تطق صبرا إذ خرجت وصرخت، فكأنها من فم رسول الله (صلى الله عليه وآله) تنطق، فتبادرت النسوان، وخرجت الولائد والولدان، وضج الناس بالبكاء والنحيب وجاء الناس من كل مكان، وأطفئت المصابيح لكيلا تتبين صفحات النساء وخيل إلى النسوان أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قام من قبره، وصارت الناس في دهشة وحيرة لما قد رهقهم، وهي (عليها السلام) تنادي وتندب أباه: وا أبتاه، وا صفياه، وا محمداه! وا أبا القاسماه، وا ربيع الأرامل واليتامى، من للقبلة والمصلى، ومن لابنتك الوالهة الثكلى.
ثم أقبلت تعثر في أذيالها، وهي لا تبصر شيئا من عبرتها، ومن تواتر دمعتها حتى دنت من قبر أبيها محمد (صلى الله عليه وآله) فلما نظرت إلى الحجرة وقع طرفها على المأذنة فقصرت خطاها، ودام نحيبها وبكاها، إلى أن أغمي عليها، فتبادرت النسوان إليها فنضحن الماء عليها وعلى صدرها وجبينها حتى أفاقت، فلما أفاقت من غشيتها قامت وهي تقول:
رفعت قوتي، وخانني جلدي، وشمت بي عدوي، والكمد قاتلي، يا أبتاه بقيت والهة وحيدة، وحيرانة فريدة، فقد انخمد صوتي، وانقطع ظهري، وتنغص عيشي، وتكدر دهري، فما أجد يا أبتاه بعدك أنيسا لوحشتي، ولا رادا لدمعتي ولا معينا لضعفي، فقد فني بعدك محكم التنزيل، ومهبط جبرئيل.(العلامة المجلسي بحار الأنوار - الجزء ٤٣-ص١٧٥).
وكان بلال قد امتنع بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الأذان قال: لا أؤذن لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن فاطمة (عليها السلام) قالت ذات يوم: إني أشتهي أن أسمع صوت مؤذن أبي (صلى الله عليه وآله) بالأذان. فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الأذان فلما قال: الله أكبر الله أكبر ذكرت أباها وأيامه، فلم تتمالك من البكاء، فلما بلغ إلى قوله: أشهد أن محمداً رسول الله شهقت فاطمة (عليها السلام) وسقطت لوجهها وغشي عليها، فقال الناس لبلال: أمسك يا بلال فقد فارقت ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الدنيا، وظنوا أنها قد ماتت؟ فقطع أذانه، ولم يتمّه، فأفاقت فاطمة (عليها السلام) وسألته أن يتمّ الأذان فلم يفعل وقال لها: يا سيدة النسوان إني أخشى عليك مما تنزلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان. (بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٣ – الصفحة).
وروي أنها ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدة الركن باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعد ساعة، وتقول لولديها: أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرة بعد مرة؟ أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما فلا يدعكما تمشيان على الأرض؟ ولا أراه يفتح هذا الباب أبدا ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما. أما بيت الأحزان فكانت روايته تتشظى له القلوب من ألم لوعتها على أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) قيل في ذلك الشأن: اجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقالوا له: يا أبا الحسن إن فاطمة (عليها السلام) تبكي الليل والنهار فلا أحد منا يتهنأ بالنوم في الليل على فرشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنا نخبرك أن تسألها إما أن تبكي ليلا أو نهارا.
فقال (عليه السلام): حبا وكرامة. فأقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى دخل على فاطمة (عليها السلام) وهي لا تفيق من البكاء، ولا ينفع فيها العزاء فلما رأته سكنت هنيئة له، فقال لها: يا بنت رسول الله - (صلى الله عليه وآله) - إن شيوخ المدينة يسألوني أن أسألك إما أن تبكين أباك ليلا وإما نهارا. فقالت: يا أبا الحسن ما أقل مكثي بينهم وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم فوالله لا أسكت ليلا ولا نهارا أو ألحق بأبي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال لها علي (عليه السلام): افعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك. ثم إنه بنى لها بيتا في البقيع نازحا عن المدينة يسمى بيت الأحزان، وكانت إذا أصبحت قدمت الحسن والحسين(عليهماالسلام) أمام، وخرجت إلى البقيع باكية. كانت الزهراء تعرف عِظم المصاب، ومدى تأثير الواقعة في الموجودات كلها.
وهي أعلم امرأة في الإسلام، وأعرف بعظمة نبي الإسلام. وكانت عالمة بما سيؤول إليه حال الأمة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) فكانت حتى في رثاؤها للنبي شمولية المحنة، لعزاء أُمتها في خاتم الأنبياء.
اضافةتعليق
التعليقات
العراق2024-03-02