رمضان الكريم شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران ينتظره المسلمون على أحر من الجمر، شوقاً وطمعاً في القرب من الله، فما أجمل لقاء شهر رمضان الكريم، وما أصعب فراقه وأشقه على نفس المسلم. الذي أسلم نيّته وجملها بحسن سريرته وخلقه وتفانيه وإخلاصه في طلب رضا الله عنه في هذا الشهر الفضي.
وطوبى لمن أحسن صيامه وقيامه، وليس هناك أصعب من أن يتوجه الإنسان لبناء نفسه بالطرق السليمة، فالعوائق كثيرة وكبيرة وتحتاج إلى صراع قوي ضد رغبات النفس التي غالبا ما تميل إلى الجنوح خارج إطار العقل والمقبول من الأعراف والتقاليد، وهي بفطرتها تميل إلى السهل دون خوض الصعاب في جميع تجاربها.
لذا يحتاج الإنسان إلى ركائز وظروف تمهد له طريق إصلاح النفس وبناء أفضل، ومن الظروف الإلهية المتاحة للمؤمن هو شهر رمضان المبارك الذي ُسنَّ الله صيامه وفرضه على المؤمن. ونحن نلتمس أن أجواء السلام والإيمان التي تسود العالم في هذا الشهر وخاصة الإسلامي، تجعل الإنسان لطيفاً رَقيقًا، ومدافعاً عن حقوق أخيه الانسان، يهفو قلبه لمساعدة الفقراء، تسمو روحه لجميع أفعال الخير، نابذاً الأفعال المشينة. وكلما ارتقت النية الحسنة والدوافع الخيّرة لتحسين ذات الإنسان كانت النية أقومها للنجاح قال الإمام علي"عليه السلام": (بحسن النية تنجح المطالب) .
وما سر نجاح النية بتوفيق الإنسان ماهو إلا أنَّ حسن النية يوجب ارتباط العمل بالله تعالى وهو ما يؤدي إلى التوفيق الإلهي والمدد الرباني وكل عمل خالص لله هو توفيق رباني لما يطلبه المرء من طيب المعيشة في الدنيا وبلوغ النجاة في طلب الآخرة.
فعند دخول شهر رمضان يستثمرهُ المؤمن في إرضاء الله وإتمام الفروض ويبتعد عن كل مايغضبه ولا يرضيه وما انتهى رمضان يعود البعض إلى نكث عهوده وتجارته مع الله في اصلاح نفسه والرجوع إلى سلوكياته التي عكف على التخلص منها طيلة ثلاثون يوماً من التعبد والالتزام. فإذا كان الصومُ لك جُنَّةً ووقاية، وحِصْناً حَصِيْناً من شياطين الإنس والجن، فهل تَأْمنْ على نفسك بقيةَ العامِ بلا حصنٍ ولا عُدة.
فالصومُ باقٍ بقاءَ العام، فَطِبْ نفساً بِمَوَاسِمِ الصِّيَام وقاوم الشيطان طوال العام فلو أخلصت النية في ذلك حفظك الله منه. وكما حافظتَ على الصلاةِ بركوعها وسجودها وخشوعها، وذرفتَ الدمعَ بين يدي ربك، فهلاّ بَقِيْتَ على هذه الحالة بقيةَ عمرك وفي سائر عملك فالصلاةُ عمودُ الإسلام، ولا حظَّ في الإسلام لمن ضَيَّع الصلاة .
فماذا عليك الآن وأنت تودع شهر رمضان؟
لابد أن تودع رمضان بمثل ما استقبلته بالطاعة والإيمان والبر والإحسان، وكما أقمتَ رمضان إيماناً واحتساباً وها قد انقضى شهرُ القيام . فلا تَقْصُر عنه سائرَ العام . فخذ بالجدِّ فيه ، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل عزه استغناؤه عن الناس. وكما فرغت نفسك لقراءة القرآن، وعزفتَ عن الشواغل حتى لا تهجُره في شهره ، يُحسن بك أنْ تُحدد وقت مخصص لقراءة القرآن وتقدمهُ على الشواغل؛ لتَحْظَى بِخَتَمَات أخرى . وإنَّك قادر أن تحافظ قدْرَ وسعك على قلبِك من غَوائلِ الهوى، وكما صُنتْ سَمْعكَ ، وبَصَركَ ، وفؤادَكَ عما لا ينبغي في شهرِ الصيامِ رجاءَ كماله، ولكنْ لتعلمَ أنَّ صيامَ الجوارحِ لا يَنْقَضي بغروبِ شمسِ آخرِ ليلةٍ من رمضان ، فشرْعُ الله دائمٌ على مَرِّ العام ذلك فاحفظ قلبك طوال العمر من الحسد والكبر والحقد والغل. وتارة تكون تلك العبادات وحسن سلوك المؤمن تؤثر في الآخرين لتغير بعض قناعاتهم الاجتماعية نحو الأفضل فيما استمر على ذات النهج يقول الإمام الصادق عليه السلام: (كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم).
وهذا يعني ليس ترك الدعوة باللسان، بل عدم الاكتفاء بها لأنها مطلوبة أيضاً، ولكن الدعوة بالعمل أيضاً، فإذا اقترن القول بالسلوك أو بالعمل فسيكون التأثير اكبر وافضل واسرع وسيلة تغير في المجتمع. فعملية البناء اصعب بكثير من عملية الهدم، كالفرق بين الصعود والارتقاء، فالصعود يتطلب مشقة وسعياً مضاعفاَ عما يحتاجه الانحدار، وهكذا يحتاج الإنسان مشقة أنْ يحافط على نفسه ويصونها وينجح في قطف ثمار هذا الشهر الفضيل بالحفاظ على تلك العبادات والعادات على مدار السنة. فالمسألة ليست بالأماني إنَّما بالسعي والإجتهاد وبدوام السلوك الحسن ورضا الله تدوم الصلة بينك وبين رمضان دون انقطاع، فالعبادات دائمة والمكروهات نافذة والمحبوبات في رضا الله دائمة.
لذا على الجميع أن يعرفوا قيمة هذا الشهر الفضيل في تشذيب النفس من شوائبها. فيا شهر الخير غير مودع ودعناك، كان نهارك صدقة وصياماً، وليلك قراءة وقياماً، ومساجدنا فيك معمورة، يعزُ علينا أن تنطفئ مصابيح أيام عظيمة خصها الله بالمغفرة، فلا وجل ولا خشوع ولا بكاء ولا دموع، فيا شهر الصيام أسرع إلينا ثانية فقلوبنا إليك تحن ومن ألم فراقك تبكي وتئن .
اضافةتعليق
التعليقات