من موائد الأدعية، وتأثيرها على القلب والجوارح وكل المشاعر والأحاسيس هي، فك البؤر المحسوسة، وطلسم العقد الذاتية التي تعبأ لنا نحوسات النفس وتمنعها إلتماس الإجابة.
فتحرمها خير وفيض الوجود وتحملها طاقة غير مستقرة ذات وجه سلبي تأخذ بمسامع البركة، وتذرها معلقة القلق وحيرة الفهم وتعقل الظروف والواقعة محشوة بغشاوة التيه المفرط.
كثيرة هي الفواصل التي لابد من التوقف بحدها لنأخذ منها معين السر ونلبي مكامن الروية، وشغف الاستفادة من بواطن الغيث ونعرف كمين شيفرتها حتى تجرف لنا خيرها بقوة حروفها وجليل المعنى فيها.
في الدعاء، وإن تعدد أسلوبه وتألقت بلاغة كلماته، يبقى الدليل إلى قنديل نوره، وأثر عبقه مغمورا بجاذبية الوله إلى ذاك النور وبلوغ لذة مناجاة المعبود تتأهب لتلبي فيض الطلب وتهنأ الدمعة أن في عموم الرغبة لتحقيق الغاية، نفحة حتمية، وهداية مفوضة إلى بكاء القلب وغسل أزمته من دهاء الوقت وكبوته الضالة، لذا يستلزم شرطا لتحقيق مطلبه..
وقد أدلى لنا الإمام الصادق في أصول الكافي، ذلك بقوله:
قال عليه السلام: ثلاثة ترد عليهم دعوتهم: رجل رزقه الله مالا فأنفقه في غير وجهه، ثم قال: يا رب ارزقني. فيقال له: ألم أرزقك؟ ورجل دعا على امرأته، وهو لها ظالم، فيقال له: ألم أجعل أمرها بيدك؟ ورجل جالس في بيته، وقال: يا رب ارزقني، فيقال له: ألم أجعل لك السبيل إلى طلب الرزق.
حب الدعاء إلى الله روضة من رياض الصفاء
يتعالى فيها شهيق الهدوء طيات لطالما توجعت وتوجهت من شدة رمق أصابها عند عثرة الخوف والبلاء، فتسجد الجوارح ويتكلم صمت مخدعها وتبوح وتبكي، وترف معاقل العيون لتصل إلى معدن الحقيقة ومعرفة الخفي وماوراء غيب الإجابة .
ولعل أفضل الجمل، أن تسكب العبرة، عبرا منها وتواكب الكتاب، وتفرز يبابها عن عبابها، وتعطي للسبب قوة لتحدي كسل المبتغى وصقل الفكرة بأحسن التلقين إلى حيث التسليم لقضاء الله وقدرته .
وبذلك، يستفيق الذهن مبتهجا صادقا مع نفسه ومرابطا واثقا من صدق نواياه وعاقبة داره ..
أهل البيت.. وبيت الدعاء
يتميز بيت الدعاء بالعلى نسبة إلى من فتح بابه وتقلد مفاتيحه كاللؤلؤ الطري وأعطى منه واجهة، لم يسبق لها مثيل طرحا وأسلوبا على مر التأريخ، فهم من كانوا أهلا للدعاء وباب إجابته، وهم من صوروه بصورة لم يسبق له بديل أبدا.
فهم للدعاء أشخاص اتسمت نفوسهم بكمالات وإحساسات ونوافذ خاصة لا يمتلكها غيرهم من باقي البشر، فتطبعت حتى ملكت كل الصفات .فعشقتهم الكلمات وسخرت لهم، وأطاعتهم فكانت في المكان الذي يراد لها مع فارق المكان والزمن وكيفما هم يريدون وبمختلف المعاني وبلاغة الحرف فيه، فتسامت وتألقت وارتقت إلى عز الحضور شاخصة كن فيكون.
كان لكل إمام من الشجرة النبوية، دعاء متميز من حيث الأسلوب وقوام الفكرة فيه، وعلامة الفرق فيه وحيثياته التي لابد أن تكون حسب شاكلة الزمن وظروفه، وما من دعاء لأي إمام، إلا وله إجابة مروضة قد روضتها أفواه العصمة لتفي بطلب الحاجة وبأي كيفية كانت.. وهذا بحد ذاته اعجاز، وسر خالد لايمتلكه إلا من خصه الله بذلك.. بغض النظر، عن كون الأدعية، كلها تصب في قالب واحد وغاية ثابتة، ولكن بحذاقة جمعت فيها الألف والنون وأعطتها قيمة قرآنية، وبصياغة ثقافية علاجية مرافقة لسان حال الطرح وشمول القافية فيها .
ولعل من أسرار القبول فيه، هو احتواء دعائهم على أسماء الله العظمى أو بعض حروفه، صوتية كانت أو نطقية، والذي يدعم روحانيته وعمق التواصل الروحي بين الداعي والمدعو له.. فليس اعتباطا أن يكونوا هم الوسيلة إلى الله وباب شفاعة الخلق إلى المخلوق .
لذا اكتسبت أدعيتهم، سرعة الإجابة، وضمان تحقيق المنى، وعمق الأثر فيه.. فتهب الداعي نورا خاصا تغور قلبه الفوائد وتضع عنه أصره والأغلال التي قد تكالبت حول نياط قلبه، فتكسره بقوة إيمانها وصدقها وتسكن فؤاده، فيستسلم النبض لأفق النور، فيرتضي لنفسه مكانة هادئة، تتردد على بوصلة التمهيد والرجاء، وبوعي جامع الدمعة والانقطاع لله تعالى في موكب واحد وسجادة واثبة. إذن الدعاء يحتاج إلى أمرين مهمين، كمال الفكرة وصدق النية والعزيمة.
تميزت أدعية أهل البيت عليهم السلام بشمولية الفكرة ودقة الوصف واتقاد المعنى والأهم منها.. كمالية الانقطاع لله وعقدية المحتوى والمنحى والذي يدعم صلبها بقوة، موقف الفقرة منها أو العنوان فيها حرفا ومصداقية.
لذا نلامس الرقي وذوبانه في أفق السرد وجمال التواصل والاستمرارية بين مفرداته، حتى أن الجملة فيه لا تعاتب أختها حرفا ونصا ومعنى إلا وقد تركت حلا مغمورا بالإجابة فلا نقيصة فيه أبداً، حقا إنه قرآن ناطق قد نزل محفوظا من كل خطأ واشتباه..
فيترك انطباعا هادئا وشعورا مشهودا بالأمل ويملأ أحضان الطلب عناية خاصة يرافقها الرضا بعطاء الله وقبول قدره..
وأولى الأئمة عليهم السلام، المزيد من الاهتمام، في الدعاء والابتهال إلى الله، لأنها الأنجع والأعمق، في تهذيب النفوس، وقد أشادوا بفضل استمرارية الدعاء ودوام الطلب من الله، كي يبقى الإنسان على امتداد مع فيض النور وقالب التسليم لله..
وقد قال الإمام الصادق عليه السلام:
"عليكم بالدعاء، فإنكم لا تقربون بمثله، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، إن صاحب الصغار هو صاحب الكبار" ١.
وأوصى الإمام عليه السلام، صاحبه ميسر بن عبد العزيز، بملازمة الدعاء في جميع الأحوال، قال له :
"يا ميسر ادع، ولا تقل إن الأمر قد فرغ منه، إن عند الله عزوجل، منزلة لا تنال إلا بمسألة، ولو أن عبدا سد فاه، ولم يسأل، لم يعط شيئا، فسل تعط، يا ميسر، إنه ليس من باب يقرع، إلا يوشك أن يفتح لصاحبه.. "١.
لذا عد الدعاء، عبادة ومتلازمة مفروغ منها لقضاء الحوائج، وتتمة لكثير من المشاكل المستعصية ..
حتى إن الايمان بالقضاء والقدر لا يمنع من مواصلة الدعاء وطلب اللطف فيه.. فإنه يرد القضاء بعدما أبرم ابراما.. وسببا من أسباب دفع الضرر .
إذن من يريد الإجابة عليه أن يدعو ب مجامع قلبه، كما يصفه الامام الصادق عليه السلام بقوله:
"إن الله عزوجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه. فإذا دعوت فاقبل بقلبك، ثم استيقن الاجابة ..» .٢
وقال عليه السلام لبعض أصحابه :
"إذا دعوت فاقبل بقلبك، وظن حاجتك بالباب.." .٢
هنا ينضج الفكر وتكتمل الفكرة، في أن الدعاء كتاب، لا يفارق التقارب والتضاد إلا أحصاه، وأنه سبيل الله الآخر، والرؤية الثاقبة، وعينه الناظرة في أولياءه، وهو لسان حال أهل طاعته .
اضافةتعليق
التعليقات