مما ورد عن النبي الأعظم (صل الله عليه وآله) أنه قال في حق السيدة الزهراء (عليها السلام): «والله هي مريم الكبرى»(١)، إذ إن هذه الرواية تُنبئنا أن سمات ومقامات وأدوار السيدة مريم (عليها السلام) إنما هي وسيط لنتعرف على مريم الكبرى (عليها السلام) بمنظور قرآني، فالسيدة الزهراء (عليها السلام) المقياس، وهي سيدتهن جميعًا بلا استثناء.
لذا هنا سنورد عدة أوجه نستدل بها على أفضلية وكمال السيدة الزهراء (عليها السلام) الذي أشار إليه الحديث النبوي:
كرامة قبل الولادة
قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} (آل عمران:37)، إن المقدمات التي حصلت قبل ولادة السيدة مريم (عليها السلام) هي إنها كانت نذراً بأن يكون هذا المولود لله تعالى، فحصل القبول من الله تعالى لها.
بينما السيدة الزهراء (عليها السلام) كانت المقدمات مختلفة لمجيئها لهذا العالم، إذ كانت باختيار إلهي محض، وليس من خلال دعوة أو نذر، كانت عطية الله تعالى لنبيه الأعظم (صلى الله عليه وآله) بهيئة آية وحجة إلهية للعالمين.
حجيتها ودلالتها
الله تعالى عبر عن السيدة مريم (عليها السلام) بأنها آية، حيث ورد عن الأئمة في قول الله عزَّ وجلَّ: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً}، «يعني حجة»(٢)، فكونها حجة أي إنها دليل للناس وشاهد عليهم.
وقد روي عن الإمام العسكري (عليه السلام) أنه قال: «نحن حجج اللَّه على خلقه وجدّتنا فاطمة حجة اللَّه علينا»(٣)، أي إن السيدة الزهراء (عليها السلام) حجة على عامة الناس، وحجة على الحجج الإلهيين وهذا يدل على وسع حجيتها وعظمتها.
البُشارة بكلمة الله
قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}(آل عمران :45)، في هذه الآية بُشرتْ السيدة مريم (عليها السلام) بأنها ستكون أماً لكلمة الله تعالى وحجته في أرضه.
والسيدة الزهراء(عليها السلام) بُشرت كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أبشري يا فاطمة أما المهدي منك"(٤)، فهي أم لكلمات الله التامات وابن السيدة مريم(عليهما السلام) سيكون مأموماً خلف خاتم ولدها.
مقام حديث الملائكة
ورد في كتاب الله تعالى ذكر خصيصة حديث الملائكة للسيدة مريم (عليها السلام) بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}(آل عمران :42)، وقوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}(آل عمران : 43).
والسيدة الزهراء (عليها السلام) كانت محدثة الملائكة أيضا، فعن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنَّه قال: "سُميَتْ فاطمة مُحدّثة؛ لأنَّ الملائكةَ كانت تهبط من السماء فتناديها، كما كانت تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، إنَّ اللهَ اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة، اقنتي لربك، وتحدثّهم ويحدثونها،..."(٥).
والملفت في الرواية إنها تجيب عن وجه من أوجه تفضيل السيدة الزهراء(عليها السلام)، إذ لم يرد في الرواية ذكر طلب الملائكة الوارد في آية السيدة مريم (عليها السلام) بقولهم: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}، كونها جسدت مرتبة العبودية بكل وجودها وبأعلى الدرجات، كما روي عن الحسن البصري أنه قال: "ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتى تتورم قدماها".(٦)
كما إن فيها إشارة -كما يبدو- لاستمرارية ودوام نزول الملائكة وتحديثهم لها، وفي ذلك إشارة لمقام أن السيدة الزهراء (عليها السلام) من أهل الأنس والانكشاف على موجودات ذلك العالم، بينما السيدة مريم (عليها السلام) الآية لم تَذكر وجود تحادث بل النزول كان على قدر التبليغ.
نزول الرزق
قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران :37)، السيدة مريم(عليها السلام) كان رزقها ينزل عليها وهي في المحراب.
بينما السيدة الزهراء(عليها السلام) كانت تنزل عليها بعد أن تؤثر الآخرين وتهبهم ما لديها من طعام، بالنتيجة جهاد النفس في سلوك السيدة فاطمة (عليها السلام) أعظم، فهي لم تكن تأثره على نفسها فقط بل على زوجها وأولادها، وبذلك تقرب أكثر وسعي أعظم يُحتسب عند الله تعالى.
كما في حديث مطول- نأخذ منه الشاهد- "... قال حذيفة: وكنّا خمسة نفر: أنا وعمّار وسلمان و أبو ذر والمقداد رضي اللَّه عنهم، فدخلنا ودخل عليّ (عليه السلام) على فاطمة (عليها السلام) يبتغي عندها شيئاً من زاد، فوجد في وسط البيت جفنة من ثريد تفور وعليها عراق كثير، وكان رائحتها المسك. فحملها عليّ (عليه السلام) حتّى وضعها بين يدي رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) ومن حضر معه، فأكلنا منها حتّى تملّأنا ولا ينقص منها قليل ولا كثير. وقام النبيّ (صلى الله عليه وآله) حتّى دخل على فاطمة (عليها السلام)، وقال: أنّى لك هذا الطعام يا فاطمة؟ فردّت عليه ونحن نسمع قولهما فقالت: هو من عند اللَّه، إنّ اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب.
فخرج النبيّ (صلى الله عليه واله) إلينا مستعبراً وهو يقول: الحمد للَّه الّذي لم يمتني حتّى رأيت لابنتي ما رأى زكريّا لمريم رضي الله عنه كان إذا دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً، فيقول لها: يا مريم! أنّى لك هذا، فتقول: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّه إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}".(٧)
الصبر على التكليف ومحنة أداء الرسالة
في قوله تعالى: {فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}(مريم :23)، هنا نجد شيء من عدم الصبر على عظم الموقف الذي كان عليها أن تتحمل صعوبته.
بينما نجد إن الزهراء(عليها السلام) قد نجحت في أداء تكليفها وامتحانها الأرضي وهي في ذلك العالم، وذلك كما نقرأ: {يا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَكِ اللهُ الَّذي خَلَقَكِ قَبْلَ اَنْ يَخْلُقَكِ، فَوَجَدَكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صابِرَةً،..}(٨)، ولهذا لم نجد في أي موقف قد صدر منها يوحي بثقل أو صعوبة ما كلفت به.
تعظيم الحرمة
قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ....(155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}(النساء:١٥٦)، فإن كان مجرد الافتراء بالقول على السيدة مريم (عليها السلام) تعالى ذكره وتوعد القائلين بالعذاب الأليم!
فكيف لنا أن نتصور عِظم جرم من لم يؤذوا الزهراء(عليها السلام) بالقول بتكذيبها، وعدم الأخذ بقولها، بل أذوها وانتهكوا حرمتها، واسقطوا جنينها، وكانوا سببًا في أن ترحل مظلومة مغصوبة الحق شهيدة؟!
فعن موسى بن جعفر عن أبيه، قال: لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة دعا الأنصار، وقال: يا معشر الأنصار، قد حان الفراق.. إلى أن قال: ألا إن فاطمة بابها بابي، وبيتها بيتي، فمن هتكه، فقد هتك حجاب الله. قال عيسى: فبكى أبو الحسن (عليه السلام) طويلًا، وقطع بقية كلامه، وقال: هتك - والله - حجاب الله، هتك - والله - حجاب الله، هتك - والله - حجاب الله، يا أمه صلوات الله عليها"(٩).
اضافةتعليق
التعليقات