مثل لهيب شمعةٍ مُعطّرة، تتمايلُ شُعلتها ذات اليمين وذات الشمال، كانت الروح تتأرجح بين عوالم مُتخيّلة، لا أرضيّة، أقصُدُ دائماً وجهاتٍ لا أدري أين تأخذني. كانت بواكير الصباح تعني لي أكثر من مجرّد كونها بدايات متجددة، عُمقها يضُمُ شروقاً خاصاً، لا أشارك الشمس فيه، أغرُب وأبزغُ حسب طقسي الخاص. زقزقة البواكير تلك تُلحَنُ من قِبلِ أوركسترا، كلُ فردٍ فيها لهُ جناحيّن، مع كُلِ نغمة ينطلقُ نهرٌ عذبٌ منساب انسياب النهر في مجراه.
إنَّ شغفي بالصباح ليس ناتجاً عن رغبةُ بشرية عادية نحو البدايات، وليس واجباً أستثقله أو مُنبهاً مُزعجاً يرِنُ في أُذنيّ فأُصابُ بالاشمئزاز من موسيقاه اليومية المشؤومة، إن هيامي بالاستيقاظ الباكر يمنحني وقتاً معي، فلم أكن أجدُ نفسي في أي وقتٍ خلال اليوم كما أفعلُ صباحاً، كأن الكون انقسم لنا على جُزأين، وكأن كل البشر قد ضيّعوا جزءاً منهم، وقُدِّر لهم أن يجتمعوا بهِ كل يوم في وقتٍ محدد يستشعرونه في أرواحهم، فمنهم من لهُ الليل ومنهم من له الصباح.
تكون طاقتي الروحية خفيفةٌ كُلما أبكرتُ في الاستيقاظ وتأخرّ الآخرون في الصحو، وكلما بدأت أول التحركات البشرية، وتعالت الأصوات الكونية بشكلٍ تدريجي، كلما شارف وقتي الروحي على الانتهاء، بداياتهم المملة والرتيبة تُنهي بداياتي المُحببة واللذيذة، وكلما قارب النهار على الانتصاف ثقُل قلبي وبدأ مزاجي المنعش بالتضاؤل.
منذ أمدٍ بعيد، مُذ طفولتي، كنتُ أُحبذ الأوقات التي يختفي فيها الآخرون، السويعات التي تجعل الوجود في حالةٍ من السُبات والصمت، الصباحات الباكرة، وقت الظهيرة، ألا أستمع لأصوات وأحاديث بشرية، لا همهمات ولا كلمات تنطلقُ في الفضاء الرحب، بل أنغمرُ في ذاتي، في أعماقي السحيقة فحسب.
أفكرُ أحياناً بأن الله خلق كلُ قسمٍ من الناس في وقتٍ مختلف من النهار، ويمكنني الجزم بأنهُ خلقني في صباحٍ باكر جداً، كانت الملائكة فقط هي اليقظة فيه. وللشتاء النصيب الأجمل من توقي لانبلاج النور في دقائق الفجر، كأنك تحظى بميزة فذة، لا يتشجع أحدٌ على ترك فراشه الدافئ في أيامٍ قارصة البرودة، بينما تستمتعُ أنت بأن تفتح عينيك، تجذبك طاقة الكون نحوها، تُغريك النسمات بطيبها، وتتمايل الأغصان لتأخذك معها، فيكون مع أعماقك في موعدٍ سماوي خاص، تحظى بمحادثةٍ زرقاء مع أول زقزقة الطيور، تؤدي تحيةٍ عذبة لتلك الغيوم المتعانقة في أسرابٍ قطنية بيضاء، تتحرر، تستسلم، تتسامى، تتوهج، تتشربُ عبق الفجر، تصمت منتشياً بأنك معك فقط، منتظراً اليوم التالي، الفجر القادم، لتغرق مجدداً، فيك، فيك أنت وحسب.
اضافةتعليق
التعليقات