لاشك أن بعد فاجعة كربلاء والتي انتهت باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وصحبه الكرام في يوم عاشوراء أثراً كبيرا على الإمام السجاد عليه السلام وذات وقع كبير في قلبه، بعد أن شهد تلك الواقعة الأليمة وهو عاجز ومريض ليست له القدرة عن الدفاع عن أبيه وأهل البيت.
وبعد أن تسلم الإمامة في يوم العاشر من محرم سنة ٦١ هجرية أي يوم مقتل أبيه الإمام الحسين عليه السلام وكلف بإتمام المهمة الرسالية، ولولا القدرة الإلهية في حفظ الإمامة وأن لا تخلو الأرض من العترة الطاهرة وشاء الله أن تكون العلة الظاهرة نجاته من القتل. والمرض أقعده عن القتال في كربلاء، وكان ذلك هو الحجة الشرعية الظاهرة لعدم مشاركته في القتال لنصرة أبيه الإمام المظلوم الحسين عليه السلام.
وإرادة الله العليا التي تعلقت ببقائه وذلك لتوقف بقاء الرسالة التي تكفل الله عز وجل ببقائها ووصولها للناس كما أنزلها على بقائه، فهو الإمام الحامل للرسالة والحافظ لها بعد أبيه الإمام الحسين (ع)، وهو السبيل الوحيد الباقي بعد فاجعة كربلاء لبقاء نسل الإمام الحسين (ع)، ومنهم الأئمة الأطهار (ع)، وقد كانت أسباب الموت القريبة والشديدة تخفُق فوق رأس الإمام السجاد (ع)، وتحف به من كل جانب وصوب في كربلاء أثناء الفاجعة وفي الكوفة والشام أثناء الأسر.
وقد شمل القتل في كربلاء حتى بعض الأطفال من آل الحسين (ع)، إلا إن إرادة الله عز وجل تعلقت ببقاء الإمام علي بن الحسين السجاد، فلو اجتمع أهل الدنيا كلهم جميعا على أن يقتلوه لما استطاعوا قتله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، فإرادة الله عز وجل إرادة نافذة لا تقهر ولا تغلب في تدبير المسيرة التاريخية للإنسان، وأن هذه المسيرة سوف تنتهي حتما للنتائج التي يريدها الله تبارك وتعالى بدون أن يعطل ذلك ملكة الاختيار لدى الإنسان أو يعطل دوره ومسؤوليته في حمل الرسالة والدفاع عن الحق والحقوق.
حيث تكفل الله عز وجل بأن يقيّض لحمل الرسالة أناساً شرفاء صادقين يكونون في نصرة الحق والعدل والخير والفضيلة دائما وأبدا، فإن لم نكن نحن فسوف يكون غيرنا، يقول الله تعالى: (وَالله الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) فعلى كل إنسان أن ينظر لنفسه ويحدد موقعه من هذه الإرادة الربانية القاهرة.
الإتجاه الأول: بعد تلك المعركة الدامية كان لابد من الحفاظ على نسل الإمامة ثم حفظ العائلة من النساء والأطفال ومواساتهم في أيام الأسر والمسير إلى الشام ثم إلى المدينة. وتخفيف هول المصيبة عن عمته زينب عليها السلام، تلك المهمة العظيمة والشاقة. وبدأ الإمام (عليه السلام) بالاستعداد لما يتوجبه حمل تلك الأعباء منذ اليوم الأول بعد واقعة كربلاء، ويتأهب للقيام بدوره، كمعيل وكفيل لعوائل الشهداء، وكإمام يقود الأمة ويحافظ على تعاليم السماء.
فبعد أن رجع الإمام السجاد (عليه السلام) إلى المدينة وهو مثقل بالأحزان والآلام ليواجه الخطر المحدق بالإسلام، والذي انتشر في نفوس الأمة وهو اليأس والقنوط من الدين وأهدافه، بعد ما تعرض الحسين ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمثل هذا القتل، وما تعرض له أهله من التشريد والسبي، في بلاد المسلمين.
والصبر والحكمة من ضروب المحن والبلاء قبل قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وبعد قتله. وابتعد عن مخالطة الناس وكلما ضاقت به السبل وزاد عليه الشوق شد الرحال إلى قبر أبيه الحسين عليه السلام. فأبعد بذلك الإجراء الأخطار الموجهة إليه من الملاحقات، إذ كانت عين الرقابة تلاحقه، فاستفاد الإمام (عليه السلام) من هذا الابتعاد، وقلبه إلى عنصر مطلوب، ومفيد لنفسه، وللجماعة الباقية من حوله على ولائه.
حتى أصبح في نظر رجال الحكم (خيرا لا شر فيه). وبذلك التخطيط الموفق حافظ الإمام (عليه السلام)، لا على نفسه وأهل بيته من الإبادة الشاملة، فقط، بل تمكن من استعادة قواه، واسترجاع موقعه الإجتماعي بين الناس ليتمم المهمة الأكبر في إكمال الرسالة الحسينية.
الإتجاه الثاني:
ومن أبرز الجهود التي بذلها الإمام زين العابدين (عليه السلام) في تحركه القيادي هو ما قام به من جمع صفوف المؤمنين، والتركيز على تربيتهم روحيا، وتعليمهم الإسلام من المنبع الصافي، وإطلاعهم على أنقى المصادر الموثوقة للفكر الإسلامي، بهدف وصل الحلقات، كي لا تنقطع سلسلة عقد الإيمان، ولا تنفرط أسس العقيدة.
وبهدف تحصين العقول والنفوس من الانحرافات التي يثيرها علماء السوء الذين كانوا يبعدون الناس عن الإسلام الحق، ويكدرون ينابيعه وروافده بالشبه والأباطيل.
وتعد هذه البادرة من أهم معالم الحركة عند الإمام زين العابدين، وأعمقها أثرا وخلودا في مقاومة الدولة الحاكمة، التي استهدفت كل معالم الإسلام، بغرض القضاء عليه، وإبادته، والعودة بالأمة إلى الجاهلية الأولى بوثنيتها، وفسادها، وجهلها.
فراح الإمام يدعو الأمة إلى التفكير والتدبر: فمن أقواله (عليه السلام): "الفكرة مرآة ترى المؤمن سيئاته فيقلع عنها وحسناته فيكثر منها فلا تقع مقرعة التقريع عليه ولا تنظر عين العواقب شزيرا إليه".
إذ تبنى منعطفا جديدا للحرکة الإصلاحية في الأمة. وتشذيب بما لحق بها من أباطيل. وكما قد يكون تأسيس بناء جديد، أسهل وأمتن من ترميم بناء متهرئ، فكذلك، إن بناء فكرة في الأذهان الخالية من الشبهات، والمليئة بالأمل بهذه الفكرة، والجادة في الالتفاف حولها، والعزم على إحيائها، هو أسهل وأوفر جهدا من محاولة ترميم فكرة أصاب الناس يأسا منها، وتصوروا إخفاق تجربتها، وهم يشاهدون إبادة كبار حامليها، وضعف أنصارها، واستيلاء المعارضين عليها، فحرفوا معالمها، وشوهوا سمعتها، وزيفوا أهدافها، فقد مني المسلمون بإخفاق ويأس مما في الإسلام من خطط تحررية، ومخلصة من العبودية والفساد، وذلك لما رأوا الأمويين - أعداء هذا الدين قديما، ومناوئيه حديثا - قد استولوا على الخلافة، وبدأوا يقتلون أصحاب هذا الدين من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، والأنصار القدماء له، ويعيثون فسادا في أرض الإسلام بالقتل والفجور، وكل منكر، حرمه الإسلام.
وبكل هذه الجهود والتحصينات والتعاليم المركزة، تربى جيل صامد من المؤمنين، المتسلحين بالإسلام، بعلومه وعقيدته وتقواه وإخلاصه، فأصبحوا أمثلة للشيعة، وقدوة صالحة للتعريف لمن يستحق هذا الإسم من المنتمين إلى التشيع.
فقد كان نشاطه عظيم وهائل إلا إن التاريخ حصر دوره (عليه السلام) في أمرين وهما واقعة الطف وأدعية الصحيفة السجادية، كما ظلم غيره من أعلام أهل البيت في تلك الفترة الحالكة من تسلط حكام الجور والضلالة وتحريف الحقائق بإسناد الأمر إلى رواة وكتاب مزورين من عبدة الدراهم أو الخوف من تسلط سيوف الحكام على رقابهم.
فكانت تلك الحقبة من إمامته عودة التفاف المسلمين حول إمامهم وإنارة لعقولهم، والتركيز على تربيتهم روحيا، بهدف وصل الحلقات، كي لا تنقطع سلسلة عقد الإيمان، ولا تنفرط أسس العقيدة. ومواصلة مسير ثورة الإمام الحسين (ع) وفكره النير وتحرير الإنسان من العبودية.
اضافةتعليق
التعليقات