مضيتُ مسرعة أسابق الزمن بخطواتي, دلفت إلى حجرتها كان السرير مكتظاً بالأسلاك أحسستُ بأنها تحتضر, تقدمت نحوها بخطى حثيثة والحزن يخيم على قلبي, أمسكت يدي حدثتني بصوت واهن (لا تقطعي عادتي بالزيارة واحياء مراسيم يوم الدفن كما كنت أفعل, فقد ورثتُ تلك العادة من أمي وأوصتني بها وها أنا أوصيك أيضا).
آخر ما قالته أمي وبعد أن مضى على رقادها ساعات انتقلت لجوار ربها, لم توصيني بأختي الصغيرة التي لم تتزوج بعد, أو بحالي أو عيالي بل أوصتني بشيء لم أفكر به يوماً, ما زلت أذكر كيف كنت أمقتها حينما تذهب لتقليد الزيارة وتعود معفرة خدها وخمارها بالطين, معلنةً بذلك احيائها مراسيم الدفن للإمام الحسين وأصحابه (عليهم السلام) لكوننا من عشيرة بني أسد.
أخبرها لا حاجة لذلك يا أمي, يكفي ان تدخلي الحرم بثياب نظيمة وتؤدي الزيارة... إلا أنها لم تكترث لي يوما وواصلت تقليدها السنوي بكل تفاصيله, ولخوفها من انقطاع عادتها كانت آخر وصاياها هو إحياء طقوسها العظيمة لزيارة يوم الدفن..
استذكار الحزن
في الثالث عشر من عاشوراء تستحضر قوافل الحزن ذكرى الدفن للأجساد الطاهرة فالنساء يجتمعن على نية المواساة ليتوضَّأن بالدمع ويقمن بعد ذلك صلاة العزاء على مصاب آل بيت المصطفى (صلى الله عليه وعلى آله) حيث ترسم في هذا اليوم لوحة أخرى من لوحات عاشوراء الدامية ليشعر الناس بوجع زينب وهي ترحل مرغمة عن جسد أخيها تجوب الأرض في رحلة السبي الأليمة..
(بشرى حياة) حضرت مراسيم يوم الدفن والتقت بنساء من بني أسد ليستذكرن طقوسهن بتلك المناسبة..
واصلت أم سجاد حديثها عن وصية أمها وكيف قامت بتنفيذها:
"في العام الأول اعتراني الخجل والتردد غير إني نفذت وصيتها بحذافيرها, كان اشبه بكرنفال حزن دامي كل ما كانت تقوم به أمي فعلته دون دراية, شعور خارج عن الارادة شعور حب وولاء يعبر عن وقع المصيبة, وها أنا بعامي الثالث اُحيي مراسيم الدفن التي أوصتني بها أمي (رحمها الله) مع الزينبيات المواليات لأهل بيت الرسالة".
ومن جانبها حدثتنا أم يوسف قائلة: "عادة يوم الدفن لعشيرة بني أسد إنما هي طقوس أزلية تعاقبتها الأجيال وقد حضرنا اليوم لإحياء هذه المراسيم التي تعد جزءا منا, رغم الحزن الذي يعتليني غير إني أشعر بالغبطة لأن الله كتب لي إحياء الزيارة وحضور مراسيم الدفن".
طقوس تشبيهية
وعن الطقوس التشبيهية تحدثنا الحاجة أم أزهر قائلة: "في كل عام يستعد زوجي وأولادي بتجهيز موكب العزاء من مكبرات صوتية وطبول وموكب تشبيهيّ لنعش رمزي لسيد الشهداء, كما يحملون معهم أدوات الدفن تمثيلا لطقوس الواقعة الأليمة, وينفرد أبناء عشائر بني أسد ونسائهم بهذه الطقوس ويشارك بإحياء مراسيمها أكثر من 45 موكب".
وأضافت: "كما يكون للنسوة دور فعال بإحياء هذه الطقوس إذ نخرج خلف مواكب الرجال, بموكب خاص بنا نادبات ومولولات ومضرجات بالطين تعبيرا عن مواساتنا للسيدة فاطمة الزهراء ومؤازرة الحوراء زينب (عليهما السلام).
ختمت حديثها: "هذه الطقوس ورثناها عن أجدادنا وقد تعاقبتها الأجيال فالشعائر الحسينية تبقى خالدة ونحن الفانين, قالتها أميرة الشام بطلة كربلاء (فو الله لا تمحُ ذكرنا ولا تمت وحينا...).
توثيق تاريخي
لقد وثق المؤرخون سبب ارتباط قبيلة بني أسد بمراسيم الدفن, وذلك يعود لسنة 61هـ, حيث خرجن نساء بني أسد يستقين من نهر الفرات, وإذا بجثث مُطرحة على وجه الصعيد، تشخب دماؤهم كأنهم قُتلِوا ليومهم, فرجعن إلى عشيرتهن صارخاتٍ باكياتٍ, وقلن: أنتم جالسون في بيوتكم, وهذا الامام الحسين (عليه السلام) ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته وصحبته مجزرون كالأضاحي على الرمال, فبماذا تعتذرون من رسول الله، وأمير المؤمنين، وفاطمة الزهراء، فإن فاتتكم نصرة الامام الحسين (علية السلام) فقوموا إلى الأجساد الزكية فواروها, فذهب الرجال لدفن الأجساد الطاهرة, ومنذ ذلك الحين يخرج الآلاف في عزاء كبير لقبيلة بني أسد, من أبناء هذه العشيرة, تخليداً لما فعله أجدادهم من مراسيم دفن الأجساد الطاهرة.
الحسين منارا للثائرين
وعن البعد الوجداني والفكري والعقائدي لإحياء هذه الطقوس حدثنا الشيخ عبد الكريم الحمداني قائلا: "يرى الشيعة ويشاركهم المنصفون والقادة العظام كغاندي وغيفارا وغيرهم أن لاستذكار ملحمة الطف دورا فعليا أزليا لترسيخ المعتقد من خلال استنهاض قيم التضحية بالغالي والنفيس, لتثبيت مبدأ رفض الظلم حيث أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشكل الركن الأهم للشرائع السماوية وهو ما يقض مضاجع الطغاة الذين سعوا لطمس وتشويه تلك الشعائر الحسينية, والتي أراد الله (جل وعلا) لها البقاء والتجدد".
وأضاف: "كما هذا لا يقتصر على الأيام العشرة, بل يقوم بها الموالين على مدار العام, ففي اليوم الثالث عشر من شهر محرم الحرام يقيمون فعالية الدفن (بني أسد) حيث يستذكرون بأن الإمام السجاد (عليه السلام) ومن خلال إعجاز إلهي حباه به العزيز القدير (جل وعلا) أتى من الكوفة ليقوم بمساعدة عشيرة بني أسد بدفن أجداث شهداء الطف, حيث يتميز معتقد الشيعة بإيلاء أهمية متميزة لموتاهم تأسيا بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يدل على مدى التاريخ الإسلامي وغيره من تعظيم لقيم الوفاء لمن ضحى بكل شيء من أجل القيم السماوية العليا, فأعطاه الله الكريم كل شيء, ومن ذلك أن ديمومة استذكاره هي محطات للتعبئة العقائدية ليكون منارا للثائرين وكابوسا يقض مضاجع الطغاة والفاسدين".
اضافةتعليق
التعليقات