خشية الله التي اقتصرت على العلماء لم تأتي فقط لتبين مكانتهم العلمية أو المعنوية بل أيضا لتبين مدى معرفتهم بالله حتى وصلوا إلى هذه المرحلة، والمتأمل في حياة العلماء يجد أن هؤلاء امتلكوا قدرة من العلم الخارجي والداخلي مما جعلهم مؤهلين لبث العلم في مختلف أنواعه، فالموسوعية التي يمتلكها علماء الشيعة غير موجودة في علماء العالم الذين يختصون بعلم واحد.
فمنذ الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) وإلى الآن يعود المؤمنون إليهم في شتى مسائلهم إلى هؤلاء القمم ومنهم القامة السيد عبد الحسين شرف الدين والذي تصادف اليوم ذكرى وفاته، السيد لبناني الأصل عراقي الولادة والده السيد يوسف بن جواد بن إسماعيل بن محمد بن محمد بن إبراهيم شرف الدين الموسوي الشحوري(1)، نال أعلى درجات الاجتهاد في العراق ثم عاد إلى جبل عامل، وكان هذا سنة 1322 هـ. واختار الإقامة في منطقة شحور في مدينة صور وذلك بطلب من أهل صور، وقام بتأسيس مجموعة من المدارس منها المدرسة الجعفرية ومدرسة الزهراء ومساجد كثيرها أشهرها مسجد يوم الغدير.(2)
ولكل عالم من العلماء كلمته في الجانب السياسي فعاصر السيد عبد الحسين الاحتلال العثماني ووقف ضده ثم الفرنسي وأعطى فتوى في محاربته(3)
وقد انتقل من مكان إلى آخر فبين الشام ولبنان ومصر وفلسطين والعراق، وتعرض إلى النفي ومصادرة أملاكه، وقد أحرقت مكتبته، كما وقف ضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
عُرف بكونه بليغا متحدثا وهذا عهد من تتلمذوا على يد نهج البلاغة لأمير المؤمنين فضلا عن كونه صاحب كلمة مؤثرة، فله موقف مع ملك السعودية آنذاك عبد العزيز آل سعود وقدّم له مصحفاً مغلّفاً بجلد كهدية له، قبل الملك الهدية أخذها وقبلها، فقال له السيد شرف الدين: كيف تقبل هذا الجلد وتعظمه؟ هذا شرك! فتعجب وقال: كان غرضي من تقبيل الجلد هو الاحترام للقرآن، وليس لهذا الجلد، فقال له السيد عبد الحسين: أحسنت، نحن كذلك حين نقبّل قبور الأئمة، أو شباك النبي صلی الله عليه وآله وسلم أو أبواب أضرحتهم ليس غرضنا من التقبيل هو نفس التراب أو الشباك المحيط بالقبر، بل مقصودنا تعظيم صاحب القبر، فكبّر الحاضرون وصدّقوه. عندها أجبر الملك السعودي على الموافقة للحجاج بالتبرّك بتراث النبي صلی الله عليه وآله وسلم ولكن الملك الذي جاء بعده أصدر حكمه بالمنع.
أما مؤلفاته فكثيرة من حيث الكمية من جانب والنوعية من جانب أهم المحتوى العلمي فله أكثر من ثلاثين مؤلف، وهذا يضاعف القيمة، إنه يدل على ملكة خصبة أصيلة لا يؤخرها أشد العوائق عن الاتقان، وإنها لتثبت له بطولة فكر، ومن أشهر الكتب لتي عُرِفَ بها السيد شرف الدين كتاب المراجعات، يُعد من الكتب الكلامية والحوارية في العصر الحالي، كتبه الإمام عبد الحسين شرف الدين العاملي، جمع فيه مراسلاته مع شيخ الأزهر آنذاك الشيخ سليم البشري التي بلغت 112 مراجعة، رتبها على صورة حوار، تركزت أغلب حلقاته حول موضوع الإمامة.[4] اعتمد السيد في استدلالاته على مصادر السنّة.
كان سبب تأليف الكتاب أن السيد قام في سنة 1329 هـ / 1911 م بزيارة لدولة مصر ليقف على أعلامها، فكانت من جملة زياراته للعلماء أن التقى عدّة مرات بشيخ الأزهر الشيخ سليم البشري، فكان حصيلة ذلك مناقشات دارت بينهما في المسائل العقائدية، كموضوع الإمامة وأهم أسباب الاختلاف الواقع بين أهل السنة والشيعة.
بادر السيد شرف الدين بعد ربع قرن من الحوار مع الشيخ سليم البشري إلى نشر هذه المناظرات، وكان سبب التأخير في نشرها عائداً كما ذكر السيد نفسه في مقدمة الكتاب للحوادث والكوارث التي كانت حاجزاً قوياً لنشرها في تلك الفترة كالحرب العالمية الأولى سنة 1332 هـ / 1914 م وعدم تهيئة الظروف المناسبة، ولكنه نشرها سنة 1355 هـ / 1936 م. وبالرغم من فقدان النسخة الأصلية للمراسلات إثر احتلال الفرنسيين لبلدته، إلا أن السيد استأنف مضامين المراسلات بجميع مباحثها التي دارت بينهما، وطُبِع في أكثر مرة.
مما قال فيه بعض العلماء فقال فيه آية الله محمد جواد الطباطبائي: (العبقري المتحرر والمفكر الجريء)، والسيد محسن جمال الدين (الامام شرف الدين منار لا تنطفئ أنواره ومجد لا تمحي آثاره).
توفي في مدينة صور سنة 1957 ميلادي (1377 هجرية)، ونُقل جثمانه إلى النجف فدفن في مشهد الإمام علي بن أبي طالب.
هذا الملخص البسيط الذي لا يسمن ولا يغني عن حياة السيد عبد الحسين شرف الدين والذي يعد قامة من قامات علماء الشيعة، والذي لم يتناول سيرته الكثيرين، ويكاد يختفي ذكره من كثير من شباب اليوم، وهو يمثل العمامة الحقيقة لرسول الله علما وأخلاقا ومن أراد أن يطلع على خيرة رجال الدين فليقرأ سيرة علمائنا.
اضافةتعليق
التعليقات