تلك المرارة في حنجرته وذلك الإحساس بالذل المتفاقم الذي يغطّي كتفيه كانا كفيلان بجعله يتحمل اللوم والمسؤولية اللانهائية لما يحصل في بلده بصفته شاباً يمثل حاضر الوطن ومستقبل الأجيال القادمة وكذلك بصفته صحفياً في صحيفة يومية لها صيت وتقع في متناول الجميع.
يقع الشباب في فخ حيرة سؤال ماذا عليهم أن يفعلوا الآن ليغيروا شيئاً؟ لكن بالنسبة له كان قد تجاوز ذلك السؤال منذ زمن فهو يعلم إن كلماته هي سلاحه الأكثر قوة وفتكاً، الآخرون يقاتلون بثقة في الجبهات وهو ها هنا يوصل للعالم صور تضحياتهم وعزيمتهم التي تأبى أن تُقهر، يعرض حقيقتهم التي تستحق الفخر. ويدافع عنهم ضد الإعلام الذي تتبعثر كلماته مزهوة تحت سلطة المال وخانعة تحت جبروت القوة.
يجلس أمام حاسوبه المحمول ليكتب بعقل يحمل أفكار كهذه وقلب إنسان يحمل ضمير حي لينقل صور الواقع ولكن إتصال من رئيس التحرير يرده ليطلب منه أن يتجاوز اليوم خبر إستشهاد عشر شباب مجاهدين لأنهم يموتون دائما وعشرة أشخاص ليس بعدد كبير لنُقلق الناس بشأنه. وكأن الذين ماتوا أنعام خُلقت لتذبح، فيتراجع عن الكتابة اليوم ليحافظ على عمله.
وفي يوم آخر يُطلب منه ألا يذكر بالتفاصيل الدقيقة ما حدث من غدر لمجموعة من المقاتلين في سبيل الله حفاظاً على العلاقات السياسية مع دول أخرى.
وفي يوم ما تعين عليه أن لا ينقل خبر إنتصار المجاهدين متذرعين بحجة إنهم لا يريدون كشف معلومات عسكرية سرية مع إنه رأى أحد القادة الكبار في الجيش يجول المعمورة ليحاول إقناع أحد ما بنشر خبر الإنتصار العظيم الذي تم تحقيقه ليقوي عزيمة المجاهدين ويبعث روح البهجة في أنفس الشعب الذين إمتلأت قلوبهم بأسى ألم الحرب والفقد ولكن ذلك القائد لم يحصل على مراده لأن الشعب إن آمن بقوة الجيش سيستمر بإرسال المساعدات وسيستمر أبناء الوطن بالتدفق للجبهات بشجاعة وفي أعينهم بريق النصر وفي قلوبهم أماني للتحرير.
يوم مر وأيام كثيرة مرت على ذات الشاكلة جعلته مخدراً بالكامل. عقله مُعدم الدفاعات يتقبل كل ما يطرح على مسامعه كأنه الحقيقة ويكتب كل ما يُطلب منه مزهواً بالمهمات الرفيعة التي أُسندت له والحظوة لدى علية القوم. مضى وقد أجبر ضميره أن يدخل في سبات عميق وكأن شتاء سيبريا القارص البرودة حل عليه.
وفي يوم ما ذهب لعمل مقابلة مع أسرة أحد الذين تم عدهم خونة تسببوا في هلاك مائتي مجاهد.
كان منزل ذلك الخائن منزلاً صغيراً على قد الحال في الضاحية ولكن رغم بساطته كان أنيقاً ونظيفاً.
إستقبلت والدة ذلك الخائن العجوز المتعبة الزائر بحفاوة كبيرة ودون أن تسأله عن هويته. نادت على فتاة بإسم (هدى) وبعد دقائق أتت تلك أل(الهدى) ويبدو عليها إنها تبلغ من العمر خمسة عشر سنة تقريباً، محجبة بطريقة يظهر وجهها صغيراً بين قطعة قماش كبيرة تغطي رأسها ونصف جسدها وترتدي تحتها ثوب فضفاض طويل يغطي كل قدميها وجزء كبير من كفها، وأخبرتها أن تحضر الشاي وما يرافقه من حلويات الضيافة لهذا الزائر القادم من المدينة.
خطر له أن لا يُعرف عن نفسه لكي تكون هذه العجوز الريفية صريحة معه وتخبره عن ولدها وتعبر عن حقدها تجاه المجاهدين بدون قيود ليحصل على سبق صحفي.
قالت الأم العجوز: الضيف بركة ورحمة من الله. ولقد حلت البركة في بيتنا بقدومك. أهلاً بك وسهلاً.
رسم على وجهه إبتسامة مشرقة كرد على كلامها وهو يقول في نفسه بخبث هيا أيتها العجوز أخبريني بما أريد أن أعرفه ثم سأل مُظهراً حسن النية: من ذلك الشاب في الصورة؟
الأم: الله يحفظ لك ولأهلك شبابك الجميل. هذا يا بني ولدي الشهيد الذي لم أحظى بشيء حلو غيره في حياتي المرة كشاي أسود بلون الليل بدون سكر.
أحضرت تلك الفتاة الشاي فتوقفت العجوز لبرهة ثم قالت بمودة: بني أشرب شايك وأعذرنا على التقصير. هدى أذهبي لإكمال دراستك عزيزتي ولكن كوني قريبة حتى تسمعيني إذا ناديتك إن إحتجت لشيء.
أومأت بالموافقة وغادرت بهدوء وبسرعة كأنها نسمة هواء.
قالت العجوز: الله يوفقها هذه بنت الشهيد الغالي وماء بارد منعش للقلب. درّة. فتاة عانت كثيراً ولكنها لا تشتكي، حتى إني لم أر دموعها مطلقاً، إنها لا تبكي حتى لا تقلقني.
شعر بوخزة عجيبة في قلبه ربما لأن هذه الطفلة ذكرته بأخته الصغرى التي تقاربها في العمر والهيئة إلى حد ما.
شعر بفضول حقيقي لمعرفة الآلام التي حلت بهذا البيت ونسي تماماً مهمته التي أوصلته إلى هنا.
سأل وهو يظهر تعاطف حقيقي: ماذا حصل لها؟
أجابت العجوز: والدتها توفيت بذاك المرض الخبيث وكانت في الخامسة ورباها والدها وحيداً والآن والدها ذهب شهيداً لربه وهي تتجرع ظلماً وزوراً معاملة الناس لها كفرد من عائلة الخائن.
سأل مستفسراً: لم فهم ما تعنين؟
العجوز: يا ولدي لا تشغل نفسك إنها قضية كبيرة.
قال مُتلهفاً: ناشدتك بالله أن تتكرمي علي وتشاركيني قصتك يا (حجية).الناس لبعضها.
قالت وهي ترتجف محاولة كبت دموعها: الله يسمع منك ونكون حجاج. يا بني الإعلام جعل من ولدي الشهيد وأصدقاءه المؤمنون خونة (ضربت على صدرها براحة يدها عدة ضربات وإنهمرت الدموع) إبني خائن! إبني مُصلي، صائم، عابد، زاهد بهذه الدنيا. أنظر له! كم هو شاب متفائل إبتسامته لم تختفي يوماً... راح مني بعمر خمس وثلاثين سنة بعده شاب _الله يحفظ شبابك بني_ قالوا لي حرقوه في غرفة صغيرة وحرقوا قلبي معه لأنه رفض أمر الرأس الكبير بالإنسحاب من الجبهة وهم على وشك النصر. يا ليت الموت أخذني بدل عنه. يقولون إن هناك مقطع مصور لعملية حرقه صوّره الأوغاد ليشاهدوه ويفرحوا بنصرهم وقد حصل عليه مجاهد مؤمن ولكن أخبرتهم أن لا يدعوني أسمع به حتى. لا قلب لدي بني (كفكفت دموعها وأردفت: هدى لا تقبل أن أبكي على والدها فهي تقول إن والدها سعيد في الجنة الآن وقد ضحى من أجل دينه ووطنه ولو لم يقف ضد الطغاة بشجاعة لم تكن لتعيش الآن بأمان.. ستوبّخني يا إلهي!
كيف يمكن لفتاة صغيرة ضئيلة أن تمتلك عقلاً واعياً ومسؤولاً كهذا؟ وكيف له أن لا يمتلك قليلاً من العقل والضمير مثلها وهو الصحفي المثقف؟ ولنفترض جدلاً إن الشباب الذين استشهدوا لا قيمة لحياتهم لكن كيف يُعقل أن يهون عليه ضياع حياة أولادهم الصغار الضعاف الذين لا دخل لهم بالأمر برمته؟ كانت هذه الأسئلة هي الربيع حل على ضميره وأشرقت الشمس مجدداً ليذوب كل ذلك الجليد وقال وهو يشعر بالمسؤولية والعار الشديد: حجية من يرعاكم الآن؟
العجوز (مبتسمة برضا وتشير بإصبعها السبابة للأعلى): الله يا بني الله... أنا خياطة وتلك الطفلة تساعدني كثيراً بما إن نظري ليس مثل أيام الشباب، وأنا لستُ عجوز لذلك الحد.. إنه الزمن والحزن جعلني أبدو بهذا المظهر، وأنا جدّة لأن لا أحد عندنا من ذكر أو أنثى يبقى لعمر العشرين بدون زواج. يعني حضرتكم بعمركم هذا عندنا _أعذرني _ لا يؤخذ برأيك ولا مجلس لك بين الرجال. (ضحكت بحياء).
ضحك هو أيضاً لفرط المفاجأة وقال: كيف عرفت إني غير متزوج حجية؟ من يدي؟
العجوز (تشعر بالفخر): ليست يدك يا إبني. إنها الخبرة... وهل تعتقدُ إنَّ العمرَ يمرُ بلا فائدة؟
أكمل شرب الشاي ثم أعطى رقمه للعجوز لتتصل به إن إحتاجت لشيء ثم قال: لن تتصلي بي أعلم. أعطني رقمك لأتصل بك لأطمئن عليك حجية أنا إبنك ثائر تذكريني جيداً.
خرج من دارهم دون ان يذكر أي شيء حول كونه صحفي وقد تخبّطت الأفكار في رأسه، تذكر نفسه القديمة وضميره الحي والوعود التي قطعها لنفسه. سنة ونصف وهو يتسبب بالآلام لعوائل طيبة ومؤمنة مثل هذه العائلة، سنة ونصف وهو يسيء للشهداء بمسرة عارمة مستخدماً شيء مقدساً كالكلمة، سنة ونصف أصبح فيها أسوء من كلب مسعور. لماذا فعل كل ذلك؟ هل سيُكفر الله عنه تلك الذنوب؟
شعر إن الله منحه فرصة ليتوب ويكفّر عن جزء من ذنوبه بدءاً من هذه العائلة، شعر إنه يمتلك الآن فرصة لإصلاح أخطاءه واستخدام كلماته مجدداً في مساندة الحقيقة، وقد قرر إستغلال هذه الفرصة التي منحها الله له جيداً.
في طريق عودته للمدينة قرر أن يقدم استقالته ويبحث عن برنامج تلفزيوني أو مؤسسة ترعى أسر الشهداء لترعى هذه الأسرة الطيبة، كما قرر الرجوع لمدونته الشخصية بعد فراق دام سنة ونصف ليثبت براءة والد هدى حتى وإن إستلزمه الأمر أن يبحث عن ذلك المقطع المصور والجنود الذين شهدوا الواقعة في جبهة القتال بنفسه.
اضافةتعليق
التعليقات