تُجل نسائم الحزن في محرم الحرام بالبكاء وثوب السواد، العيون معتمة وقد أحياها دمع ساكب والوتر يستغيث، (ألا من ناصر ينصرني )، (ألا من ذابٍ يذب عن حرم رسول الله ).
إنه نداء عاشوراء، يَبُل الصدى بالفاجعة ويحرر القدر المأساوي من مفرداته، ليبوح بمكنوناته الغضة ومواقفه السمحاء، ويصور لنا ذاك المهرجان وزي الوجوم قابع محاجر الحزن والألم.
ولهفة الطفل، عبدالله الرضيع وليد الوحي تلبي نداء النصرة لفقد الريق خصوبته وعطش التراب لينبوع السلام، وشمس الظهيرة شاهدة على ظلم الهجير، وعلوج الشواذ، والحسين قد لطخ الهواء والفضاء من دماءه الزاكيات .
هو الهتاف، والصحوة لتلبية من ضحى بنفسه وأهل بيته لمجد الشريعة الغراء .
في خيمة الفكر، عقيدة ساكنة، خاضعة، تتجول خواطرها بين أطناب التسليم ونافذة القدر، شكواها من نظر السماء، وثار الله يجوب صحراء الاستقامة، وفي راحة يده المباركة آية من نور، وراية الوتر أثقلت نواحيه، وأجلّت دواعيه حتى تخترم الحياة أهداف النهضة بصورتها المعهودة.
من أنّة الوسادة المتوجعة، همس يتهجد في بيت المرض واستضعاف الجهد، فيء ساجد برقة الحرف… إنه زين العباد، ودعاء الانقطاع إلى الله، لهيب يلهج بإسم السبط ، (إن أبي الحسين مات عطشانا).…
وأعظم المصاب، أن تجول السيوف على شاب، هو للوجود آية وكتاب، وفقيه يرى الجنة غاية، يعالج المعرفة بغيبه، ويسأله كل من أصابه العتاب، إنه علي الأكبر، وهو أكبر المصاب، أن تفتتن الدنيا بمقتله، وتسجد الطور لفقده، وتبكي المساجد لذكره، مواساة حيث أصاب لأبيه الحسين المستجاب .
على مدى خطوات العباءة المحترقة، وخطاب الكتاب، وثأر العتاب يحتضن امرأة عليها جلباب العفاف والوجع، وكدمات السوط تراود مبسمها الدامي، وقد خالطت دموعها شكواها، وذاكرة التل مهرجان كل مثابر وثائر والصيحة على كل ظالم وسراب، صوتها الشجي ينادي وا محمداه وا علياه وثوب الولاية راقد على شهاب التراب يجود بنفسه، هي زينب، وزينة الدين، وخطاب كل أنثى في هذا اليباب، يحاسب الله كل معاند ظالم لا يؤمن بيوم الحساب .
في صومعة قافلتها أطفال على هيئة در منثور، يرجون السقاية، وقد حجت نواظرهم إلى حيث باب النجاة مولاهم الحسين، وساحة الحقيقة مخضبة بدماء الشباب والأصحاب .
دموعهم شهاب ثاقب ولكن بلغة البيان، أوجاع طريق، وأفق صيف جاف، شمس حارقة وأفواه تطلب النجاة .إنها البراءة على مدار الشفاه الذابلات .
قبلة اليتيم في خطر، منها سكينة وأخرى رقية تطوف القارعة بانسياب، تطلب الحلم أباها تحتضن نفسها، وتنام أنتها في راحة المحراب، صوما موجعا قد اغتال قلبها والتعصيب خدش رقتها ونعومة خلدها قد بتر العذاب منها مفاصل، وأسقاها ضيم السماهر، هي تبكي، لا تبالي، حتى يرى العمق فيها روع الحواضن .
فأغاثها فارسا، قادما من القمر، هو العباس، يبكي على راحلة الطريق، ومحاسن خده دموع قد شقت الودج منه خوفا على قيم السماء، ولكي تنام الهمسات الناعمة في أمان، كان لابد للرمق أن يذوب، وتنساب الروافد من نقاء الكوثر لتسد البقاء بعض وفاء، فآثرت نفسه واخترقت حجبه سفينة النجاة، وارتضى لنفسه بطولة تغبطه عليه كل الخلائق يوم الحساب .
ولكن للشجاعة أدوار، وبيت الحسين محشو القدرة والجلال ، حتى ظهر القاسم المغوار في غمد قامته عهد ورسالة، والتزام ورعاية، وقوة الفولاذ قد أثقلت سواعده، أبياً لا يهاب أي قتال، حتى قُطعت أوصاله، وكانت أنفاسه (أدركني عمي ياحسين) قطوف دانية ترغب من الجنة نظرات قبل رحيلها، إلى حيث المطاف.
في كربلاء القيامة، مشاهد مغسولة بدم طاهر، تعج من مراقدها مقل الفداء والعطاء، في ذراعها الشاهد أصحابٌ فقهاء، أسمائهم ربيع كل فكرة، وأعمارهم عقائد خالدة .
الحرب طاحنة، والعطش سيف حاد، يحز رأس العزيز، والاشاءة قدر عمره مرهون الحياة ..
ها هي قافلة اليوم، ترتدي لباس السواد، وتكتوي ألما تبحث عن الرشاد، وعصمة التمكين رهين الرمش والدموع ساقية له إلى يوم الرقاد .
ومن الخيام ينبثق دخان أسود، هو شعار معطر بالهتاف، والجمر مكواة جائرة تنهب أقدام البراءة، وتحرق كل عباءة، والماء بات علقة على الشفاه تطلب نجاة وشفاء، يطاردها الألم، وعين الشيطان قاسية متجردة الرحمة، تلسع سياطها كل العفاف ويعم الجفاف أفواه متعبة هاربة من شدة العذاب إلى زمن الإنقاذ إلى الأرض القاحلة، فمنهم هائم على وجهه وآخر قد غطاه التراب .
في عافية التوحيد، وعلى مر التاريخ جند غير مهزوم من الأحزاب، بل أكفهم داعية ترتدي الحلم جلباب، والملائكة سجدا أعتاب البهاء، يقبلون البيت وماحوله، تبارك لمن أعاد كرة التأريخ حضورا مطرزا بالعهد والولاء والطاعة، وسجل لنفسه محفلا مباركا حبا وجاها وخدمة لسيد الشهداء .
اضافةتعليق
التعليقات