دستور الحياة هو الوصف الشامل العام للقرآن الكريم، ويمكن أن نصفه أيضاً بأنه المرآة التي يمكن أن يعرف كل إنسان بها خريطته النفسية، أحواله، مآله، ففي سورة الحج نجد أن فيها أصنافاً من الناس ذُكروا وفق سُلمي التكامل والتسافل، وقد ركزت على الجنبة العقائدية والمعرفية للإنسان تجاه إيمانهم بالله تعالى ورسله والمعاد.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ}(الحج:٢)، هذا الصنف هو واحد منها، وهو أهل المجادلة في وعد الله تعالى بوجود جزاء ومعاد، فهم ممن لا يريدون أن يبصروا الحق، بل ممن يريدون التبرير لتعصبهم لما يحملونه من عقائد فاسدة، وليبثوا الشُبه والشكوك في نفوس غيرهم، فخطورتهم تكمن بأنهم لا يكتفون بإضلال أنفسهم بل يضلون غيرهم.
والآية تصفهم بأنهم ممن وقعوا في شِباك الشيطان، فكانوا أداةً لتنفيذ خططه في اهلاك وإضلال الناس، لذا حذرت الآية من الإصغاء لأمثال هؤلاء أو تبني أفكارهم وتصديقها من دون دليل يطمئنون به، وإلا فإن مصيرهم سيكون كمصيرهم وهو عذاب السعير.
وهنا الله عز وجل وضع لنا مفتاحا لغلق باب فتنة وإضلال هؤلاء، بقوله: {أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا...}(الحج:٥).
فهذه الآية تعيد الإنسان لاستنطاق فطرته لتنير له الطريق، وتمزق حجب أهل التضليل، فمن يشك بوجود البعثة من جديد، فليتأمل ببداية إيجاده وكيفية خلقه، فالذي خلقه وأوجده في هذه الحياة الدنيا وبهذه الدقة من العدم، فهو(عز وجل) بلا شك أقدر على أن يبعثه من جديد بعد أن أصبح شيئاً مذكوراً؟! فالفكر السليم لا يقبل بما يقوله هؤلاء المجادلين.
ثم ذكرت السورة نفس هذا الصنف في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ○ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}(الحج:٨-٩).
ولعل المراد هنا من أهل الجدال هم الذين يجادلون عن تخطيط ودراية، لإبعاد الناس وإضلالهم، فعند التأمل في الخطاب الإلهي نجد نوع من الوعيد الشديد الذي وجه لشخصية واحدة، تلك التي تقود عملية التضليل، من خلال التفصيل بذكر عقابها في الدنيا والآخرة، وليس كما في الآية السابق.
كما إن أهل الجدال في الآية الأولى هم عن غير علم اتبعوا الشيطان فضلوا وأضلوا، ولكن هؤلاء هم ممن كان أمامه فرصة أن ينور عقله بالعلم، ويبصر بهدى الرسل، ويشفي قلبه من الأمراض المعنوية ويستنير بما جاءت به الكتب السماوية، ولكنه اختار طريق الظلام والضلال، فظلم نفسه.
لذا من المهم جداً أن يتفحص الإنسان نفسه لكي لا يكون ضعيفاً أمام الشيطان فيَضِل، ويصبح أداة ضلال دون أن يشعر، وأن لا يتعصب لأفكاره وما يتبناه من دون الرجوع إلى أهل الهدى والنور والعلم الرباني فيطغى ويُضل.
اضافةتعليق
التعليقات