ليالي معدودات تفصلنا عن أعظم مصيبة، مصيبة جلت وعظمت على جميع أهل الأرض والسماوات السبع، إنها ليالي شهر محرم الحرام.
شهر تبدأ ساعته الأولى بنوح وعويل ملائكة السماء، حيث يولد هلاله مع نشر مولاتنا فاطمة الزهراء (ع) لقميص ممزق ملطخ بالدماء تفوح منه رائحة الكرامة والإباء، معلنة عن ابتداء ليالي العويل والنواح.
فأنه قيل للإمام الصادق (عليه السلام): سيدي جعلت فداك، إن الميت يجلسون له بالنياحة بعد موته أو قتله، وأراكم تجلسون أنتم وشيعتكم من أول الشهر بالمأتم والعزاء على الحسين (عليه السلام) فقال (عليه السلام):
[يا هذا إذا هل هلال محرم نشرت الملائكة ثوب الحسين (عليه السلام) وهو مخرق من ضرب السيوف، وملطخ بالدماء فنراه نحن وشيعتنا بالبصيرة لا بالبصر، فتنفجر دموعنا]1.
قميص ذاك الشهيد الغريب العطشان المنحور من القفا باثنتي عشرة طبرة لتفصل ذلك الرأس الشريف عن الجسد المسلوب الممتلئ بأكثر من ألف جرح طعن لينتهي به المطاف تحت حوافر الخيول مطحون الاضلاع بدل التغسيل والتكفين والدفن.
إنه جسد الامام الحسين بن علي صلوات الله عليهم في كربلاء.
نعم إنها مصيبة عظيمة أبكت الملائكة والأنبياء على مر العصور وستظل تلك الدموع جارية حتى قيام المنتظر لأقامة الاْمْتِ وَاْلعِوَجِ المرجو لاِزالَةِ الْجَوْرِ وَالْعُدْوانِ، والْمُدَّخَرُ لِتَجْديدِ الْفَرآئِضِ والسُّنَنِ خاتم الأئمة والأوصياء الامام المهدي قائم آل محمد (عجل الله فرجه الشريف).
لذلك علينا التأهب لهذه الأيام والليالي والالتحاق بركب المعزين والمواسين لنبي الله (ص) وآل بيته الطاهرين.
ولكن كيف ذلك؟
يعتقد البعض إن حضور مجلس العزاء هو المظهر الوحيد لتلك المواساة، نعم حضور المجالس من أروع وأصدق معاني العزاء لآل البيت (ع) والأعظم منها التكفل بإقامة تلك المجالس بشتى أنواعها من خطابة وقراءة النواعي وتحضير الطعام وتوفير باقي مستلزمات المجلس الحسيني مادياً ومعنوياً.
ولكن هذا ليس بالأمر الأساسي والجوهري في تهيئة النفس لروح العزاء، إنما هناك أساسيات وخطوات مهمة جداً نستعرض بعضاً منها سائلين المولى التوفيق لتلك النعمة الجليلة.
في بادئ الأمر علينا قبل دخول شهر محرم استشعار عظم المصيبة القادمة وأخذ مكان صاحب العزاء المفجوع المتألم وليس فقط المواسي، فهناك شتان بينهما، فالأول صاحب الألم والثاني مجرد مواسي قد لا يشعر بعمق الحزن كما نُدب الامام الحجة في دعائه دعاء الندبة موضحاً وضع وحالة الموالي حيث قال [فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما، فليبك الباكون، وإياهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضجَّ الضاجون، ويعجَّ العاجون]..
اذن كيف نصل لتلك الحالة؟
أولا: محاولة تهيئة الجسد والنفس بالتحقق والتدقيق بالأكل واكتساب الطعام الحلال والابتعاد عن الحرام والشبهات وذلك لأثره البالغ على النفس والروح والجسد ممتد إلى العبادات والطاعة وكذلك الدعاء بل يصل إلى الذرية!.
فقد رُوِيَ عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنهُ قَالَ: [... وَأَصْلُ عَلَامَاتِ الْهَوَى مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْفَرَائِضِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِالسُّنَنِ وَالْخَوْضِ فِي الْمَلَاهِي] 2
ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله أَنَّهُ قَالَ [أَطِبْ كَسْبَكَ تُسْتَجَبْ دَعْوَتُكَ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَرْفَعُ اللُّقْمَةَ إِلَى فِيهِ حَرَاماً فَمَا تُسْتَجَابُ لَهُ دَعْوَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْماً] 3
ورُوِيَ عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنهُ قَالَ [كَسْبُ الْحَرَامِ يَبِينُ فِي الذُّرِّيَّةِ] 4
لذلك نحاول الابتعاد كلياً عن أكل الحرام وشرابه وكسبه، وكل مايتصل به للارتقاء بالروح إلى مرحلة الصفاء والشفافية، فالقلوب الطاهرة أقرب إلى الله عزوجل.
ثانياً: علينا التقرب لله عزوجل بالطاعات والعبادة وقراءة القرآن الكريم نصرة للامام الحسين (ع) ومواصلة مسيرته فهو صلوات الله عليه لم يخرج إلا لنصرة الدين وحمايته من الضياع والتحريف كما أشار هو بأبي وأمي في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية (ع) حيث كتب له [.. وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب عليه السلام فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا أخي إليك وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب] 5.
لذلك من أجلّ الصور في نصرة الامام الحسين(ع) هي الالتحاق بمعسكره العابد وتحقيق ذلك الهدف السامي الذي من أجله نزفت دماءه الطاهرة الزكية.
ثالثاً: الابتعاد عن اللهو واللغو والغيبة والنميمة والمزاح السخيف والهرج، فهذا شهر حداد وحزن وبكاء فقد روي عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) إنه قال [نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمّه لنا عبادة، وكتمان سرِّنا جهاد في سبيل الله. ثم قال يجب أن يكتب هذا الحديث بالذهب]6، فمجرد الهم لهم تغدوا الانفاس تسبيح فكيف بالباكي والجازع والنادب والمُبكي؟
وتأسياً بأهل البيت (ع) علينا أن نعيش تلك الحالة، فقد كانت علامات الحزن والكآبة تكسو ملامح الائمة الأطهار منذ ولادة هلال شهر محرم كما روى الشيخ الصدوق بسند معتبر عند جمع من العلماء عن الإمام الرضا (ع) قال: [كان أبي (صلوات الله عليه) إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين (صلوات الله عليه)» 7.
ومن علامات إظهار الحزن هو لبس السواد طيلة تلك الأيام والليالي ليكون شعار لتلك الفاجعة
وأقوىٰ طريقة مؤثرة للترويج الاعلامي عن عاشوراء وقضية الامام الحسين (ع).
رابعاً : إكثار السواد في حضور مجالس العزاء وإن كانت بسيطة وتشجيع المؤمنين على إقامة تلك المجالس سواء مادياً أو معنوياً أو مساعدتهم بأي شكل كان وحثهم على الحضور والمساعدة ، فتلك المجالس تسر آل البيت (ع) وهي مظهر من مظاهر المودة لهم والتقرب لله عن طريقهم كما روي عن الامام جعفر الصادق (ع) في رواية طويلة [ .. يا أبا بصير إن فاطمة (ع) لتبكيه وتشهق فتزفر جهنم زفرة لولا أن الخزنة يسمعون بكاءها وقد استعدوا لذلك مخافة أن يخرج منها عنق أو يشرد دخانها فيحرق أهل الأرض فيكبحونها ما دامت باكية ويزجرونها ويوثقون من أبوابها مخافة على أهل الأرض، فلا تسكن حتى يسكن صوت فاطمة (ع) .. - إلى أن قال _ فلا تزال الملائكة مشفقين، يبكونه لبكائها، ويدعون الله ويتضرعون إليه ، ويتضرع أهل العرش ومن حوله، وترتفع أصوات من الملائكة بالتقديس لله مخافة على أهل الأرض، ولو أن صوتا من أصواتهم يصل إلى الأرض لصعق أهل الأرض، وتقطعت الجبال وزلزلت الأرض بأهلها، قلت: جعلت فداك إن هذا الامر عظيم!! قال: غيره أعظم منه مما لم تسمعه، ثم قال لي: يا أبا بصير أما تحب أن تكون فيمن يسعد فاطمة (ع) - إلى نهاية الرواية ] 8.
فهنيئاً لمن يسعد مولاتنا فاطمة الزهراء (ع).
وروي عن الإمام الرضا(عليه السلام) ، قال [ من تذكَّر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا ، كان معنا في درجتنا يوم القيامة ، ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون ، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب ] 9.
خامساً : التمسك بالشعائر الحسينية واحترام قدسيتها وحظر أي نوع من الجدال العقيم والمشاحنات والشجار بين الموالين المؤمنين على قضايا ساذجة تم دسّها بكل خباثة وحقد ودهاء من أعداء هذا المذهب للتفريق بين المؤمنين بدل توحيدهم في إقامة العزاء و تشتيتهم عن الهدف الرئيسي وهي قضية عاشوراء.
سادساً : الالتزام بقراءة زيارة عاشوراء والزيارة الناحية المقدسة بقدر المستطاع يومياً والتأمل بتلك الجمل الأليمة والاحساس بعمق المصاب والواقعة والجزع على الامام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه الكرام الشهداء ، ولا ننسى دفع الصدقات لسلامة امامنا صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه المقدس ) وذلك لشدة جزعه وهلعه في تلك الأيام المريرة والتقرب له والتضرع لله تعالى في تعجيل فرجه والتوفيق للالتحاق بجيشه والثبات على الولاية والحق والهداية.
وفي الختام نسأل الله أن يرزقنا بمنّه وكرمه العمر المديد لحضور تلك الأيام والتوفيق لاسعاد آل البيت (ع) في مواساتهم وعزائهم والتعطر بذكرهم ونكون من شيعتهم المخلصين حقاً كما وصفهم أمير المؤمنين (ع) في خطبته حيث قال [إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَاخْتَارَنَا وَ اخْتَارَ لَنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، وَ يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، وَ يَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، وَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَ أَنْفُسَهُمْ فِينَا، أُولَئِكَ مِنَّا وَ إِلَيْنَا - إلى أن قال - الْمَيِّتُ مِنْ شِيعَتِنَا صِدِّيقٌ شَهِيدٌ، صَدَقَ بِأَمْرِنَا وَ أَحَبَّ فِينَا وَ أَبْغَضَ فِينَا يُرِيدُ بِذَلِكَ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ... ﴾10, 11.
عظم الله لك الأجر يا مولاي ياصاحب الزمان وجعلنا من الآخذين بثأر آل محمد (ص) تحت لواءك.
-----------
اضافةتعليق
التعليقات