إن غاية إيجاد حالة الايمان في الفرد هو ايجاد مجتمع ايماني، فكتاب الله دائماً يخاطب الجمع لا الفرد في ايجاد حالة الايمان الحقيقي، لأن القوة الايمانية لا تنشأ بوجود فردية ايمانية..
والايمان لا يتحقق إلا بالعمل لكن ليس الفردي هو المطلوب وإنما الجماعي، لذا دائما تأتي مفردة عمل بالجمع، لأن الانسان "يصاغ في خضم العمل الجماعي الاجتماعي وبمسايرتهم والانسجام معهم"(١).
فهو مهما كان انسانا جيداً خلوقاً لا يكتشف حقيقة ذلك إلا بالاحتكاك.. فالعزلة تربي، نعم! لكن لا تتحقق ثمار التربية التي تجعلها جلية.
"فالإنسان موجود مفكر إلهي عملي واجتماعي, فالإنسان بدون فكر ومعرفة ليس انسان حقيقي؛ فالإنسان صاحب الفكر الالهي بغير عمل هو انسان ناقص!، والانسان المفكر والذي يعرف الله معرفة عملية (أي سلوكه الفردي سليم)، ولكنه منقطع عن المجتمع الموحد هو يعاني اختلال في توازنه الوجودي كإنسان كامل، لأنه لم يتحمل ويؤدي مسؤوليته بشكل كامل"(١).
في مصداق يبين كتاب الله أن طبيعة خلقة الانسان هي الضعف قال تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ (النساء :28)، فالقرآن الكريم يذم الفردية الانسانية, فالقوة لا تتحقق في النفس الانسانية إلا بالاتصال بمصدر القوة، وهذا الاتصال لا يكون إلا بالاجتماع تحت راية الحق.
فالله تعالى عبر عن يد رسوله التي يبايعونها بأنها يد الله في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ...﴾ (الفتح:10), أي إنه سبحانه يضمن للذين يلتفون تحت راية الحق المتجسدة بنبيه خاتم الرسل (ص) بأن تأييده وقوته وقدرته تكون معهم ومتجلية فيهم.
فإن طبيعة حياة الإنسان أنها مليئة بالصعاب والمشاكل وهو لن يستطيع بفرديته أن يصل بسلام ويبلغ الفلاح ما لم يكن معه رفقاء صلحاء.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)... ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ(17)أ ُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ (البلد: 18).
فالله تعالى يحث على إيجاد مجتمع تتجسد بين أفراده القيم السماوية، والحالة الإيمانية والتقوى في كل أفرادها ويتشاركونها، فالروح المؤمنة الإيجابية تبث الأمل والصبر في نفوس الآخرين، وتتواصى بالمرحمة أي العطاء والإيثار والتضحية من أجل الإنسان الآخر، ولا تعرف اليأس أو العزلة والأنانية.
فعن الامام علي(ع): "الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان" (٢).
فكتاب الله يذم فردية الإنسان لأنها تصنع منه إنسانا هلوعا، قال تعالى:﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ (المعارج:21).
فهو ينطلق من الأنانية الذاتية، أي لم يخرج من إطار نفسه بعد، فهو إن منع عنه مما يريد جزع ويأس لأنه ينظر لقدرته لا لقدرة ربه، وحقيقة الانسان انه فقير عاجز عن نفع نفسه؛ وإن أعطاه الله تعالى اكتفى به لنفسه لأنه يخاف عليه من النقصان، لأنه غافل عن مصدر العطاء وحدد من عطاء المعطي!.
ولكن تشير الآيات التي تليها إلى نفي هذه الحالة عندما يكون هذا الانسان بين أفراد المجتمع المؤمن كما تبين الآيات التي تليها: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23)... وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ (المعارج :32).
فمن له صلة بالله تعالى هو لا يصاب بالهلع لأنه متصل بالغني المطلق الذي يُعطي من لم يسأله، فكيف بمن يسأله؟!
وهو إذا أفاض الله عليه أفاض على غيره مما أُنعم عليه لأنه يدرك أن قمة الشكر تتجلى بالعطاء والبذل لأهل الاستحقاق؛ كما وأن في الشكر الازدياد..
وقوله تعالى يبين ذمه لتعامل الانسان بفرديته ويصفه باليؤوس والكفور والفرح الفخور: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾(هود :10).
وبالمقابل عندما ينخرط في المجتمع المؤمن -كما أسلفنا- تراه صابرا عند الامتحان وساعياً في عمل الصالحات إذا ما زاده الله بالنعم كما في ما تلتها من آيات: ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ (هود:11).
وفي هذه الآيات: ﴿فَأَمَّا الإنُسانَ إِذَا مَا ابْتَلَـهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ(15) وَأَمَّآ إِذَا مَآ ابْتَلَـهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبَّى أَهَـنَنِ﴾ (الفجر:16) تبيان للخريطة النفسية للإنسان ذات الايمان السطحي ومحدودية تفكيره الذي انحصر في إطار ذاته فهو لم يتحرر من قيود حب الدنيا وسجن النفس، فانعكس على سلوكه الذي تعلوه الأنانية، ثم يبين كتاب الله حقيقة ما تشكو منه هذه النفس بقوله تعالى: ﴿كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17) وَلاّ تَحَـضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينَ(18) وَتَأكُلُونَ الْتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمَّا(19) وَتُحِبُّونَ الٌمَالَ حُبَّاً جَمَّاً﴾ (الفجر:20).
أما آية مدح الفردية كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة : 105).
فهي تمدح الفردية في عدم الانخراط في السلوكيات الخاطئة؛ فإن فساد المجتمع لا يبرر للإنسان أن يصبح فاسداً، وعدم فعل الناس للخير لا يعني أن نجلس مكتوفي الأيدي لا نفعل الخير، هنا الفردية ممدوحة؛ فتعالى مدح نبيه ابراهيم (ع) وعبر عنه بأنه أمة مع أنه فرد لأنه كان يمثل بسلوكه المجتمع الإلهي الصالح.
فإن نور الإيمان والبصيرة وحدهما من يحققان معنى الحياة والحياء في نفس الإنسان فتراه منشرح الصدر وليس بعيداً عن الوسط الطبيعي الذي عليه أن يتعايش معه (أي الإجتماعي).
أما الذي يخلو قلبه من الإيمان تراه يعيش في ظلمات نفسه صدره ضيق غير مستعد لتحمل مسؤوليته للدخول في المجتمع وممارسة دوره.
فلكي نبقى على إيمان صحيح وأعمالنا صالحة، علينا أن نسأل أنفسنا قبل أي عمل نريد أن نفعله ما هي دوافعنا هل يقربنا من الله أم لا؟
هل فيه نفع لغيرنا أم نفكر في نفع أنفسنا فقط؟
لذا يحصل أن يعمل الانسان بمفرده ويكون أكثر نجاحاً واتقانا لعمله؛ إذا كان يعيش في مجتمع متكاسل خامل بالنتيجة وجوده كثقافة قرآنية هو مجتمع وأمة وإن كان فرد، ومن مهامه هو عدم الاكتفاء بصلاح نفسه بل إصلاح الفساد الموجود.
ويحصل أن يكون الفرد شغوفاً بالعمل الجماعي فتحصل لديه حالة "روح الاندماج" ولكن اختلاف الإرادة والتعارض في الأفكار كثيراً ما يفسد الأعمال لكن تراه لا يتراجع بل يكون من ذوي النفوس ذات الهمة العالية تتجاوز الخلافات وتحترم الاختلافات وتتغافل عن الزلات لينجح ويستمر وتثمر الجهود الجماعية وهذا ما يطلبه منا إيماننا وما يجب أن يعكسه ما لصلاحنا.
اضافةتعليق
التعليقات