في ذلك الظلام الدامس وبين تلك القيود التي ملأت أرجاء جسده وفي تلك الطامورة التي كانت تحت الأرض لم يطأها النور أبدا، كان سوى الظلام الذي ملأ المكان، لكن هنالك رجل في ذلك المكان الذي كان هناك نور عجيب، نور لا ينتمي إلى شمس أو قمر نور يتدفّق في أعماق الإنسان..
رغم تلك السلاسل والاغلال التي حاطت به من كل جانب، ويد الطغيان والظلم الذي شاهده، ومهما تكاثفت ظُلمة السجن في أعماق الأرض، فإنّها لا تستطيع أن تطفئ ذلك السراج الوهاج، أو توقف تدفق ذلك الشلاّل المضيء، فمن أجل هذا قال يوسف قبل آلاف السنين: ربِّ، السجنُ أحبُّ إلي ممّا يَدعُونَني إليه..
وعندما يقف الإنسان على لغز الكون، تتدفق ينابيع السلام في ذاته، فتستحيل ظلمة السجن عند ذاك إلى نور، والسلاسل والحديد إلى حرّية، غير أن الروح وهي ما تزال في إهاب الجسد تتوجّع كلّما توجّع وتئنّ كلّما أنّ فالجسد مظهر الروح والمرآة التي تنعكس فيها أشعة الحياة، وليس هناك ما هو آلم للنفس من السجن..
وليس هناك من تواصل مع الحقيقة المطلقة إلاّ أنه يجثو في حضرة الله، ثمّة كفّانِ معروقتان تمتدان نحو السماء، وعينان تفيضان الدمع شوقاً، وقلب يغمره النور القادم من نبع النور، وجه بشري فيه ضراعة وخشوع، ولسان يلهج إقراراً بمصدر كلّ الأشياء..
من أجل هذا وقف التاريخ ليسجّل تمتمات موسى في قلب الظلمات:
ـ يا مخلِّص الشجرِ مِن بينِ رمل وطين!
يا مخلِّص النار من بين الحديد والحجر!
يا مخلِّص اللبن من بين فَرْث ودم!
يا مخلِّص الولد من بين مَشيمة ورحِم!
يا مخلِّص الروح من بين الأحشاء!
خلّصْني من حبس هارون.
وعندما يغفو الجسد الآدمي، تنطلق الروح بعيداً، تتخلص من ثقل الأرض وتنفلت من أسار الطين، وللروح مرابعها وعوالمها، وكانت روح موسى مستعدّة للقاء الأنبياء، قال محمّد صلّى الله عليه وآله وهو يرى ابنه مقهوراً:
ـ حُبست مظلوماً.. يا موسى.
ثمّ علّمه كيف يحطم جدران الظلام من حوله:
ـ سأعلّمك كلمات تخلصك من الحبس..
قال موسى وروحه تعانق آخر الأنبياء:
ـ فداك أبي وأمي، ما أقول؟
شعر موسى أنّ روحه تتشرب كلمات جدّه وهو يقول:
ـ يا سامعَ كلّ صوت!
ويا سابقَ الفوت!
ويا كاسيَ العظام لحماً وناشرَها بعد الموت.
اسألك بأسمائك الحسنى.
وباسمك العظيم الأعظم.. الأكبر.. المخزون.. المكنون الذي لم يطّلع عليه أحد من المخلوقين..
يا حليماً ذا أناة لا يقوى على أناته أحد
يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا
ولا يُحصى عددا فرّج عني.
وتلقّى موسى من جدّه كلمات فأتمّهنّ.
وفي تلك الليلة هبّ هارون من نومه مرعوباً، استوى على فراشه الوثير، واستند إلى وسائد منسوجة من حرير، وفي تلك الليلة استيقظ رئيس الشرطة على دقّات غليظة تصفع الباب، أطلّ رئيس الشرطة بعينَين فزِعتَين متطلّعاً إلى خادم (الخليفة) الرهيب إنّ رؤية (مسرور) في منتصف الليل توقظ في المرء كلّ طبول الخوف، قال مسرور وقسمات وجهه ما تزال قاسية: أجِبِ الخليفة، استكمل رئيس الشرطة ارتداء بدلته الرسمية، علّه يستمد من هيبتها عزماً يسعفه عند لقاء هارون، كان هارون في ذروة التحفّز، ولم تنفع وسائد الحرير ولا فراشه الوثير في تبديد التوتر العصبي الذي تجسّد في ملامح وجهه وفي عينيه المشتعلتين، كان ساهماً يحدّق في نقطة ما على أرضية الحجرة المفروشة بالسّجاد الفارسي، السلام على أمير المؤمنين!.
شعر رئيس الشرطة أن قلبه يدق في حنجرته، وأن هارون سيسمع ولا شك طبول الخوف وهي تقرع في صدره!.
مرّت ساعة حسبها الرجل حولاً كاملاً، وقد تضاءل حتّى أصبح كجرذ مذعور في حضور قط متوحش.
قال هارون بعد لأْي: أتدري لمَ طلبتُك في هذا الوقت؟
بلع الرجل ريقه: لا والله يا أمير المؤمنين!
قال هارون وهو ينظر إلى حارس قرب الباب:
ـ رأيت في منامي عبداً حبشياً في يده حربة، كان يتوعّدني قائلاً: خلِّ عن موسى بن جعفر وإلاّ نحرتك بهذه الحربة..
انطلقْ يا عبد الله وأطلقه من السجن!
شعر رئيس الشرطة بالثقة تعود إلى قلبه وتشيع في صدره، وقد هدأت تماماً طبول الخوف، نظر إلى هارون متفحصاً ربّما كان سكران؛ قال مستوثقاً:
أُطلق موسى بنَ جعفر؟! نعم.
أُطلق موسى بن جعفر يا أمير المؤمنين؟!
نعم، وكرر رئيس الشرطة للمرّة الثالثة: أُطلق موسى؟!
قال هارون: أجل أطلقه، شَرْطَ أن لا يغادرَ بغداد أبداً..
أردف هارون، وهو يشير إلى رئيس شرطته بالانصراف:
الآن، وقل له يحضر مجالسي كلّ خميس، سمعاً وطاعة، فاطلق سراحه.
فسلام على صاحب السجدة أيها الطيب ابن الطيب الطاهر سلام دائماً أبداً.
اضافةتعليق
التعليقات