تعتبر الأسرة أقدم وأهم تجمع انساني طبيعي ظهر للوجود نتيجة الغريزة الجنسية الطبيعية بين الرجل والمرأة والحب الفطري الموجود لدى الأب والأم للأبناء.
وبتعبير أدق فإن الحياة الأسرية هي من الأمور الطبيعية التي تستند لنظام الخلق وليست نتيجة العادة أو التمدن، إذ أن العلماء وإن كانت لديهم بعض وجهات النظر المختلفة حول الحياة الاجتماعية للإنسان، حيث اعتبر بعضهم أن ذلك أمراً طبيعياً وأن الإنسان اجتماعي بالطبع، واعتبر البعض الآخر منهم الحياة الاجتماعية أمراً تعاقدياً اختاره الإنسان تحت تأثير أسباب خارجية اجبارية (لا الأسباب الداخلية)، إلا أن في مجال الحياة الأسرية توجد وجهة نظر واحدة فقط تقول أن حياة البشر الأسرية هي حياة طبيعية مائة بالمائة أي أن الإنسان خُلق أسرياً بالطبع.
وينبغي الفصل بين الحياة الأسرية والحياة الاجتماعية لأن أموراً في الطبيعة ونظام الخلق (بمشيئة الباري عز وجل) وُجدت وجعلت الإنسان وبعض الحيوانات أيضاً يميلون فطرياً نحو الحياة الأسرية وتكوين الأسرة وانجاب الأبناء.
حينما تبين لنا أن الحياة الأسرية هي حياة طبيعية مائة بالمائة لذا فإن الحقوق الناتجة عنها أيضاً ستكون حقوقاً طبيعية فطرية، لأن الحقوق الطبيعية والفطرية قد وُجدت كي يقود نظام الخلق المخلوقات نحو الكمال المطلوب وبإحاطة خاصة مع مراعاة هدف الحياة إذ أن كل استعداد طبيعي ينتج حقاً طبيعياً ويُعد سنداً طبيعياً له، فمثلاً يتمتع ابن الإنسان بحق الدراسة والذهاب إلى المدرسة ولا يملك ابن الخروف مثل ذلك الحق لأن الأول لديه الاستعداد اللازم للدراسة والفهم والثاني (ابن الحيوان) لا يملك مثل ذلك الاستعداد.
النتيجة التي نصل إليها هي أن النظام الذي يستند على الطبيعة والخلق يعتبر أمراً ذاتياً يقوم على أساس قوي متين، بعكس الأنظمة التعاقدية التي تنهار بمجرد ظهور عقود أخرى إلى جانبها.
ويكفي الحياة الأسرية أهمية أنها تشكل أساس السعادة البشرية والسبب الأول لإرسال الرسل والأنبياء وانزال الكتب والشرائع السماوية. لأن منشأ ومبدأ الحياة الأسرية هو اقتران الرجل بالمرأة حيث تتكون الأسرة بواسطتهما، وبالأسر توجد وتتحقق الأمة، وبالأمم تتحقق قافلة الإنسانية، ولأجل تنظيم تلك العلاقات نزلت الشرائع السماوية ووضعت الضوابط والقيود لتنظيمها، لذا يجب أن نعرف جوهر هذه الحقيقة وندرك عظمة وأهمية الفكرة القائلة بأن تكوين الأسرة يعني تحقيق السعادة في الحياة ومن الناحية الأخلاقية أيضاً كان للحياة الأسرية دور كبير لا يمكن إنكاره، لأن الأسرة هي أول جزء اجتماعي يدخله الإنسان، ومن هناك يعمُّ لديه مفهوم التعاون والتسامح ويتهيأ للمشاركة في المجموعات الاجتماعية الأكبر.
وليست الأسرة فقط المدرسة المناسبة واللائقة لجعل الإنسان اجتماعياً، بل هي أيضاً الأداة المؤثرة جداً لتحصينه وحمايته. فلو لم يقم الأب بواجبه تجاه أبنائه في تحمل مسؤولية حمايتهم ورعايتهم، وتركهم في وسط المجتمع بلا مأوى أو ملجأ، فإن مصيراً مجهولاً ينتظرهم، وكيف يأمل وإلى أي حد يستطيع أن يُعلم ويربي مثل هؤلاء الأطفال تربية سليمة.
ونتيجة لهذا التآزر الأخلاقي والحقوقي فإن العلاقات بين المرأة والرجل لا تتحدد بالغريزة الجنسية فقط، بل يكون الأصل فيها تربية الأبناء وإحلال الواجب محل هوى النفس، ومزج الحب بالأخلاق بين الزوجين كي يجد أبناؤهم في منزل العائلة المحيط المناسب للنمو البدني والمعنوي. إن الطفل الذي يتولى مسؤولية تربيته أولئك الذين سيطروا على هوى أنفسهم، وأحبوا ذلك الوليد من أعماق قلوبهم، وفكروا فقط بطهارته وصلاحه، إن مثل هذا الطفل لا يمكن مقارنته مع الطفل الذي يواجه بشكل مباشر مفاسد ومساوىء المجتمع ولا يجد في معترك الحياة مساعداً أو معيناً. ولا يحتاج هذا الموضوع إلى دليل، لأننا نرى بوضوح الفارق بين من تربى وترعرع في أحضان أسرة متدينة صالحة وبين من هو في الظاهر فقط تحت نظر الأب والأم.
الأسرة هي المركز الأساس الذي يحافظ على الأخلاق والتقاليد والعادات الشعبية، وهي أيضاً مركز نمو العواطف السامية الخالية من سياسة العنف. إن الطفل الذي يترعرع في بيئة صالحة يصبح عضواً نافعاً في المجتمع متبعاً للتقاليد والآداب والأخلاق الاجتماعية.
اضافةتعليق
التعليقات