القرآن الكريم بحرٌ زاخر بالإعجاز البياني والدلالات العميقة، ومن ذلك التفرقة بين "رحمت" و"رحمة" في السياقات المختلفة. قد تبدو اللفظتان متشابهتين، لكن عند التدقيق في مواضع ورودهما، نجد أن كلًّا منهما تحمل دلالة خاصة تعكس معنًى دقيقًا مرتبطًا بالآية التي وردت فيها.
رحمة الله بالتاء المربوطة: الرحمة المرجوَّة
يَرِد ذِكر "رحمة" بالتاء المربوطة في القرآن الكريم حين تكون الرحمة في حكم الغيب، لم تصل إلى العبد بعد، لكنها قريبة ومرجوَّة. وهذا ما يظهر في قوله تعالى:
"أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ" (الزمر: 9).
في هذه الآية، الرحمة لم تُعطَ بعد، لكنها مرجوَّة للعبد الساجد القائم، فهي لم تخرج إلى السائل، لكنها قريبة منه.
رحمت الله بالتاء المفتوحة: الرحمة التي انفتحت بعد قبضها
أما حين تُكتب الرحمة بالتاء المفتوحة "رحمت"، فإنها تدل على رحمة كانت محبوسة ثم فُتِحت لأصحابها، وهذا يظهر في سياق البشارة والعطاء. كما في قصة النبي إبراهيم وزوجته حين بُشِّرَت بولادة إسحاق، إذ قال الله تعالى:
"قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ؟ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" (هود: 73).
في هذه الآية، الرحمة التي ظلت مؤجَّلة لسنوات طويلة قد انفتحت، فجاءت بالتاء المفتوحة، دلالة على تحقُّق الفرج بعد انتظار طويل.
دلالات الإسناد في القرآن: المغفرة لله، والعذاب منفصل عنه
من جماليات التعبير القرآني أن الله عز وجل ينسب الرحمة والمغفرة إلى نفسه بصيغة مباشرة، كما في قوله:
"نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الحجر: 49).
أما حين يتحدث عن العذاب، فإنه يُسنِد الفعل دون أن ينسبه إلى ذاته بنفس الطريقة، كما في قوله تعالى:
"وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ" (الحجر: 50).
فالعذاب، وإن كان واقعًا بإرادة الله، إلا أن الله تعالى لا ينسبه إلى ذاته بنفس القرب والشفافية التي ينسب بها الرحمة، وذلك من كمال عدله ورحمته.
الرحمة في حياة الأنبياء: استجابة الله لعباده
نرى في القرآن كيف أن الله يفتح رحمته لعباده بعد طول انتظار، كما استجاب للنبي زكريا حين دعا ربه، فجاءت الاستجابة بقول الله تعالى:
"ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا" (مريم: 2).
هذه الرحمة لم تكن حاضرة قبل ذلك، لكنها فُتحت في الوقت الذي قدَّره الله لها.
التأمل في الفروقات اللغوية بين "رحمة" و"رحمت" في القرآن الكريم يكشف عن دقة البيان القرآني وإعجازه اللغوي، حيث لا تُستخدَم كلمة إلا في موضعها المناسب تمامًا. هذه الفروقات اللفظية تعكس معاني عميقة تتعلق بالزمن، والرجاء، والتأخير، والفتح بعد القبض، مما يجعل تدبر القرآن تجربةً تزيد المؤمن قربًا من الله وتعلُّقًا بكلماته المعجزة.
اضافةتعليق
التعليقات