دائماً ما يُهاجم الإسلام بأنه دين الحروب وإنه ما انتشر ولا اتسع إلا بالسيف، ويُلام المسلمين بأنهم حمَلةً للسيوف وأن النبي محمد (ص) هو أول نبيّ يُحارِب أو أولَ مُصلحٍ اُضطر لحمل السلاح، وكأن الإسلام هو الذي ابتكر فكرة الحرب!
من يتأمل التاريخ يرى أن ما من أحدٍ سعى للإصلاح والتقويم إلا وكان ضحيةً للمكائد الخبيثة، والمكر السيء، حيث أن شبكة المصالح القائمة على الفساد لن تقف صامتةً بوجه أي محاولة لتصحيح الوضع القائم وهم من سيبدؤون بحمل السلاح ضد أي محاولة لتغيير الواقع أو إصلاحه. فهل يجدر بالمصلحين هنا الوقوف والاستسلام والسماح للمفسدين بقتلهم وهدر دمائهم دون أي دفاع عن النفس؟
لم يكن حمل السلاح بحد ذاته أمراً مجّرماً لصاحبه، ولم يصبح كذلك سوى في ظل الدولة الحديثة المتوحشة التي احتكرت فيها الأنظمة المستبدة حمل السلاح لها فقط لإحكام سيطرتها على الشعوب، فقد أصبح امتلاك السلاح جريمة، بينما الجريمة الفعلية تتحدد بطريقة استخدامه للاعتداء والقتل، وليس حيازته فقط للدفاع عن النفس كحق مشروع، الجريمة هي الاعتداء على الآخرين، وترويع الآمنين، حتى وإن كان بأبسط الأدوات بل حتى إن كانت تلك الأداة كلمة!
منذ بداية البشرية، ارتكب أخٌ جريمة بحق أخيه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) حيث تحول هذا التهديد إلى تنفيذ فعليّ للقتل (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، فقد أنجب الأخ القاتل ملايين من القتلة بعده، فهل يمكن لأي شخصٍ عاقل القول بأن على الفئة الأخرى الاستسلام لهؤلاء السفاحين دون الدفاع عن النفس كما فعل الأخ الأول! ولذلك فُرض القتال على المسلمين ومن قبلهم المسيحيين ومن قبلهم اليهود، لم يكن القتال اختراعاً إسلامياً قط، لذا فإن الآية التي شرّعت القتال ذاتها توضح قِدم هذا الأمر: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)، فهل يتوجب على من أُخرج من داره وتمت محاربته بشتى الوسائل، أن يرتضي ذلك ويسلّم نفسه بقلبٍ بارد؟ بل يجب أن يكون هناك خط دفاع يحفظ رسالة محمد وعيسى وموسى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
إذ إن الهدف من كل هذا هو تمكين دين الله والتمهيد للإصلاح، وليس استغلال دين الله لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية، وعلى وجه الخصوص في وقتٍ يصبح فيه الدين ورقةً سياسية يُتلاعب بها.
إن كل من يعادي الإسلام لا يريد للمسلمين امتلاك القدرة على المقاومة، وأنهم ينبغي لهم أن يكونوا قطعاناً مستسلمة مفعمين بالسلمية رغم إن رسالة الإسلام واضحة، دين العدل الحاسم (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)، بينما كان التسامح هو أساس الديانة المسيحية: (مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضًا) ولكن الآية انقلبت بعد أن قامت لكل دين دولة، فأصبح المسيحيين هم من يبتدئون الاعتداء والمسلمين هم من يُقابلون السيئة بالحسنة.
هل العنف بحد ذاته أمرٌ مُعيب؟
العنف وسيلة، والأمر المشين هي الغاية التي تستخدم فيها الوسيلة تلك، جيوش العالم أجمع تستخدم العنف، لكن هل جميع الجيوش مثل بعضها؟ أم تفرق بينها عدالة القضية! هل هي جيوش معتدية أم أنها ترد الاعتداء؟ إن علامة الاعتداء في الإسلام هي دفع البغي وكسر قوة المعتدين: (وَقَٰتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوٓاْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) حيث تنص الآية على وجوب قتال من يبدأ الاعتداء مع الحرص على عدم تعدّي حدود الله ودون الافتراء والتمادي: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ)، إنه توضيح وتقييد في غاية الانضباط، قانونٌ دقيق لا يوجد إلا في الإسلام، حيث يُحجّم الإسلام الحديث عن القتال والقوة والعنف بتقوى الله، إنذاراً من جعل السلاح والقوة دافعاً للتمادي. التوازن بين ردع العدوّ والإمساك بزمام القوة لكي لا يُستضعف المؤمن أو يُذّل، وفي نفس الوقت أن يتقي المؤمن الله حتى في عدوّه.
فمن يحب التلاعب بسُمعة الإسلام والمسلمين يقوم باستقطاع نص من سياقه، سياق النص أو سياق التاريخ، فيُحرّف معانيه ليحقق أهدافه، مثل قول الشاعر:
ما قال ربك ويل للذين سكروا
ولكن قال ويل للمـصلينا
فهو يقتطع الآية من سياقها فلا يعرف ما قبلها ولا ما بعدها ولا سبب نزولها حتى.
يطعن أعداء الإسلام في أمور القتال عند المسلمين في عهد رسول الله مدّعين أن الإسلام دينٌ يحرضُ على العنف والظلم، متجاهلين حقيقة أن النبي الأكرم والمسلمين لم يكونوا يشنوا حرباً إلا دفاعاً عن النفس، ولم يحاربوا عبدة الأوثان إلا لأنهم أرادوا إبادة المسلمين بأي شكلٍ من الأشكال، وفي كثيرٍ من الآيات يؤكد الله سبحانه وتعالى على منع المسلمين من قتال من لا يريدون بهم شراً:
(فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوٓاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ۚ وَأُوْلَٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا).
السلاح يُرد به على من يبتدأ استخدامه، أما غير ذلك فلا سبيل للهداية إلا الدعوة وجهاد الكلمة: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).
اضافةتعليق
التعليقات