لماذا يزور الشيعة أضرحة الأئمة المعصومين، وأولياء الله الصالحين، ما الدافع لحرصهم على هذا العمل بالرغم من لوم اللائمين، ونقد الناقدين، بل أن وتيرة المعارضة تصل إلى تكفير الشيعة واتهامهم بأنهم عبدة القبور؟!
مع إن المذاهب الإسلامية جميعها تجيز زيارة القبور؛ وتعتبرها سنة مستحبة استنادا إلى الحديث النبوي: " زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة".
لذا نجد إن أضرحة الأولياء منتشرة في الأقطار الإسلامية كلها، والمسلمون يزورونها ويتبركون بها والأمر عندهم من المسلّمات التي لا شك فيها ولا مراء!!
لو سألنا أحد الشيعة عن سبب زيارته لأضرحة الأئمة ومشاهدهم المقدسة فربما يقول: إننا نزور بهدف تكريم المزور؛ فإن الأمم جميعا تكرّم رموزها وأبطالها، وتبني لهم الأضرحة، وتقيم لهم النُصُب التذكارية التي تخلّدهم في ذاكرة شعوبهم، ونحن نقتدي بهذا العرف العام الذي تتبعه الشعوب كلها.
وربما يكون الجواب: لأن الأئمة المعصومين كرام على الله، ولهم منزلة عظيمة نالوها بطاعتهم المطلقة لله؛ فقد عبدوه حق عبادته وبذلوا أنفسهم الزكية في سبيل مرضاته؛ فنالوا بذلك درجة الشفاعة المقبولة؛ فبهم تُقضى الحوائج، وتُنال البركات .
وقد يجيب آخر: بأن مشاهد المعصومين والأولياء الصالحين محطّات إلهية للعبادة والتقرّب إلى الله، ونيل فيوضاته ورضاه، فالزائر يقضي وقته في المشهد المقدس مابين صلاة، وتضرّع، وقراءة قرآن فتجدد الروح نشاطها؛ لذا يشعر الزائر بشعور البهجة وانشراح القلب والراحة النفسية بعد كل زيارة .
كل هذه الإجابات تعكس المفاهيم الشائعة من هدف الزيارة، ولكنها لا تمثل الهدف الأهم والأوسع والأكثر عمقا الذي كان الأئمة المعصومون يحرصون على إيصاله لشيعتهم! .
لقد كان للأئمة (عليهم السلام) - من خلال شعيرة الزيارة - مشروع ينطوي على أهداف تربوية، وسياسية، وثقافية واسعة وبعيدة المدى!..
وقد أعطى هذا المشروع ثمراته المباركه، وكان أحد الأركان المهمة في قوة المذهب وثباته وديمومته رغم الحرب الشرسة التي يتعرّض لها باستمرار وبلا هوادة .
لقد سعى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إلى جعل الشيعي الموالي على صلة مباشرة ودائمة بمنابع الإسلام الأصيل في الفكر والنظرية، وهذا ما نلمسه جليا في نصوص الزيارات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام)؛ فلو كان هدف الأئمة من خلال زيارة مشاهدهم مجرد إلقاء التحية، أو التبرك - كما يفعل غير الشيعة - لما تركوا لنا هذا الكمّ الهائل من نصوص الزيارة التي تزخر بتعداد مآثرهم، وتسلّط الضوء على جهودهم وتضحياتهم في سبيل الإسلام، وما تعرّضوا لهم من ظلم وقتل وانتهاك للحرمات بعبارات مؤثرة تلامس عقل القارئ وعاطفته، وتحرّك تفاعله العميق مع النص!.
إضافة إلى ما أرشدوا إليه من مراسيم ومقدمات ومستحبات للزيارة كالغسل، والاستئذان، والكثير من الآداب.
إن أهم ما ركزّ عليه الأئمة واشترطوه في زيارتهم هو أن يكون الزائر عارفا بحقهم، مقرا بأنهم الأئمة المعصومون المصطَفون الذين اجتباهم الله ليكونوا خلفاء في أرضه، وحججاً على بريّته، وفرض طاعتهم على أعناق العباد، وأن يؤمن إيمانا راسخا أن الحق معهم لا مع سواهم، وأنهم باب الله، وصراطه، ونوره وبرهانه، وأن من أطاعهم نجا، ومن عصاهم هلك.
وبدون هذه المعرفة تكون الزيارة فارغة المحتوى، لا تحقق ثمراتها المرجوة بل تكون مجرد نزهة لقضاء الوقت !.
وهذه هي عقيدة التولّي التي يجب أن تُقترن بعقيدة التبرّي، وهما معا من التكاليف الشرعية التي يُسأل عنها المكلّف كما يُسأل عن الصلاة والصوم والزكاة؛ " أني سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم، وولي لمن والاكم وعدو لمن عاداكم".
وإن حبهم وطاعتهم والولاء لهم مرتبط ومقرون بحب الله وطاعته والولاء له بلا تفكيك؛ "من والاكم فقد والى الله ومن عاداكم فقد عادى الله ومن أطاعكم فقد أطاع الله" !..
فالله تعالى أمرنا بموالاة أهل البيت، والتبرّي من أعدائهم، ولا يمكن الالتزام بأحد التكليفين دون الآخر كما يدّعي البعض من إنه يحب أهل البيت ويحب أعداءهم في الوقت نفسه، وهذا من المُحالات، فالقلب لا يمكن أن يحمل ولائين متناقضين في وقت واحد، والله تعالى يقول:
{ مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلࣲ مِّن قَلۡبَیۡنِ فِی جَوۡفِهِ}.
قيل للصادق (عليه السلام): "إن فلانا يواليكم إلا أنه يضعف عن البراءة من عدوكم، فقال هيهات كذب من ادّعى محبتنا ولم يتبرأ من عدونا" ، وروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: " كمال الدين ولايتنا والبراءة من عدونا" .
فالتولّي بلا تبرّي عقيدة شوهاء، ناقصة، وغير واضحة المعالم !.
رُوِيَ أن رجلاً قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): "يا أمير المؤمنين إنّي أحبّك وأحبّ فلاناً، وسمى بعض أعدائه، فردّ عليه السلام : "أما الآن فأنت أعور، فإما أن تعمى وإما أن تبصر"!!.
فأهل البيت يرفضون الحب الأعور؛ لأنه حب متزعزع لا يحمل مقومات الثبات والاستمرار .
هذا بالإضافة إلى إن الكثير من نصوص الزيارة تُعتبّر دراسة في سيرة المعصومين كزيارة الغدير التي تعتبر عرضا كاملا لتأريخ الإسلام، وزيارة الناحية التي تروي الملحمة الحسينية بصور مفجعة مؤلمة تذيب القلوب وتفجر الدموع؛ تلك النصوص المؤثرة تعتبر قوة جاذبة تربط الزائر بأئمته فكرا واعتقادا، وتجعله متفاعلا وجدانيا مع سيرتهم، ساعيا للاقتداء بهم؛ "اللهم اجعل محياي محيا محمد وآل محمد ومماتي ممات محمد وآل محمد".
وكما تتضمن نصوص الزيارة قوة جاذبة فهي تتضمن قوة دافعة ومحفّزة، تدفع القارئ الواعي إلى التطلّع إلى المستقبل الواعد المشرق الذي سيتحقق على يد قائمهم؛ "منتظر لأمركم مرتقب لدولتكم" فيوطن نفسه ويعدّها ليكون عنصرا فاعلا في نصرهم والأخذ بثأرهم؛ " ونصرتي لكم معدة"، " وأن يرزقني طلب ثأركم مع إمام مهدي " .
ومع إن أهل البيت (عليهم السلام) قد أكّدوا على شعيرة الزيارة بصورة عامة لكل المشاهد المقدسة إلا إنهم اعتنوا عناية خاصة بزيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، وحثّوا عليها حثاً شديدا في جميع الأوقات، وفي مناسبات معينة، من القرب والبعد، وأُثِرت عنهم في فضلها ما لم يؤثر في فضل سواها؛ مما خلق تيارا يتعاظم ويقوى في الحالات والظروف كلها حتى مع الخوف، فلا تقية في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، بل كان الأئمة يشجعون عليها حتى مع الخوف، وقد أفرد الشيخ ابن قولويه القمي في كتابه "كامل الزيارات" بابا خاصا بعنوان "ثواب من زار الإمام الحسين وعليه خوف" !.
فمنذ أن دفن الإمام السجاد (عليه السلام) جسد والده، وخطّ على تراب القبر: "هذا قبر الحسين بن علي الذي قتلوه عطشانا غريبا" وأمر بني أسد أن يدلّوا الزوار عليه، لم ينقطع الشيعة عن زيارته، رغم ما قام به سلاطين الجور من محاولات مستميتة لمنعهم؛ فقد تنبّه الحكام الظَلَمة لخطورة هذا التيار المتنامي والهادر لذا سعوا بشتى الطرق لإيقافه؛ فمرة يضعون الحرس والمسالح للقبض على الزائرين، ومرة ينزلون بهم أشد العقوبات التي تصل إلى القتل، وبعض الطواغيت أفرغوا حقدهم على القبر فهدموه مرارا وتكرارا، وحاولوا مسحه عن خارطة الوجود !
لكن تلك الجهود البائسة فشلت كلها، وذهبت أدراج الرياح، وهلك أصحابها وطوى التاريخ صفحتهم المليئة بالخزي والعار، وبقي الحسين خالدا، وبقي مشهده المقدّس مهوى الأفئدة، وبهجة الأرواح ومسرّتها .
واليوم يقف العالم مدهوشا مذهولا لهذا المشهد الإعجازي، مدّ من البشر من كل جنس ولون، يسعون على أقدامهم غير عابئين بحرارة صيف لاهب لا يرحم، نسوا الأجساد وتعبها، مذهولون عن كل إحساس إلا شوقهم للحبيب، وشغفهم للثم أعتابه؛ منظر يعجز عن تفسيره من لا يحمل بين جوانحه العشق والولاء لأهل البيت (عليهم السلام) !!
وكما تنبأت السيدة زينب (عليها السلام) في حديثها مع الإمام السجاد بمستقبل مشهد أخيها حينما كانت في أوج محنة أسرها:
" .... وينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء عليه السلام لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام و لَيجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهورا وأمره إلا علوّا " .
اضافةتعليق
التعليقات