فرُغت المدينة بالكامل، هادئةٌ تماما إلا من صوتِ الخوف وصوت القلوب المرتعدة لجميع ساكنيها. أُخبرنا قبل عدةِ ساعاتٍ من اليوم أنَّ علينا أن نجدَ مأوى لنا، أعتقدُ أن الجميع غادرَ المدينة بسرعةٍ لم أعهد لها مثيلا، لم يبق إلا نحن والبعض ممن قرر التزام منزله.
ليس لنا أحدٌ خارج المدينةِ نأوي إليه، انتقلنا للقبو الذي بناه أبي لنا بعدَ الحرب السابقة، أستطيعُ سماع صوتِ قنابلٌ واطلاقات نارية لا أعلم إن كانت موجهةً نحو الفراغ أو نحو أجسادٍ بشرية.
ليست الحرب الأولى التي نعيشها، احتفلنا بعيد ميلادي ال 16 قبل ثلاثة أيامٍ وهذه ثالثُ حربٍ أشهدها. مرتْ ثلاثة شهور لنا ونحن في القبو، لم يُعلن في المذياع أنَّ الحرب انتهت أو تتجه نحو النهاية حتى، أخي الصغير مصابٌ بالسكري، وبدأت تنفذ منا إبرُ الأنسولين الخاصة به، حالته تسوء.
تمنى أخي دائما أن يموت وهو محاطٌ بنا جميعا، لا أن يموتَ وحده وها قد تحققت أمنيته، فارقَ حياتنا للأبد وهو بين يدي أمي، تصلبت يداها وهي تحتضنهُ لنحو ساعتين إن لم تكن أكثر.
من أكثرِ المفاهيم التي لا يمكن حقاً استيعابها مهما عشناها هي الموت. لم أستطع استيعاب رحيله، لم أستطع حتى أن أغرق أو أغوصَ في حزني عليه، بانفصالِ روحه عن جسده وعالمنا، انفصل ادراكي عني.
اضطررنا للعشرةِ أيامٍ التي تلت موتهُ أن نتعايش مع وجود جثته بيننا، قضت أمي لياليها وهي تغفو في حضنه الصغير ذاك، أو في جثته الصغيرة تلك. لا أعلم كيف استطاعت حتى الاقترابَ منه، لم أستطع أنا حتى النظر إليه، لم أستطع استيعاب أنهُ هو ذاته لا شخصاً آخر.
للأمهاتِ قدرةٌ غريبةٌ على أن ترى أبنائها بنفسِ الهيئة مهما تغيرت حالتهم الخارجية، لا أظنها قدرة بشرية بل ربما تكون ميزةً من نوعٍ ما تأتي مع خَيار الإنجاب.
غادرنا الملجأ صباحَ اليوم، دخلناه خمسة أشخاص لنغادره أربعة أشخاص وجثة، ولو نظرت بدقة لاستطعت رؤية خمس جثث. هذه الحربْ، تأخذُ منك وإن لم تشارك، إن ابتعدتَ أو اقتربت، شاركتَ أو تخليت، ستلتهمكَ نيرانها، إن لم تصلك نيرانها فبالتأكيد لنْ تُفلت من دخّانها.
اضافةتعليق
التعليقات