لا شك بأن الإنسان العاقل المؤمن بطبيعته مبادر لما تحمله هذه الصفة من الايجابية والخير. والقرآن الكريم يدعو دائما لهذه الصفة حيث يقول عز وجل: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ".
فالإسلام دين ديناميكية وتفاعل وعمل ونشاط وحيوية ومبادرة.. حتى نرى ذلك في مجال الدعاء فإن المولى سبحانه وتعالى يطلب من الإنسان أن يبادر بالدعاء لتأتي الإجابة "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي" – أولاً ومن ثم – "أَسْتَجِبْ لَكُمْ".
اذهبا إلى فرعون..
يكشف القرآن الكريم في إحدى قصصه الرائعة عن نموذج من أسرار القيادة لدى الأفراد، فالمولى عز وجل يخاطب موسى عليه السلام بالقول: "واصطَنَعتُكَ لنفسي"، حيث نرى بأن الله عز وجل لم ينتظر حتى يطلب موسى (عليه السلام) منه النبوة، بل رآه أهلاً لذلك فاختاره دون تردد، ثم يخاطب المولى عز وجل نبيه موسى (عليه السلام) ليعلمه صفة قيادية هامة ألا وهي (المبادرة) فيقول له: "اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي"، ثم يضيف سبحانه وتعالى: "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى" ثم يؤكد عليهما بأن يكون أسلوبهما معه حسنا: "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى".
إذن نرى وجود ثلاثة أوامر ربانية تحمل في طياتها ثلاث مبادرات متتالية.. ثم لما رأى سبحانه وتعالى التردد منهما (موسى و أخيه هارون عليهما السلام) بقولهم: "قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى"، جاءت المبادرة الرابعة من المولى جل شأنه حيث قال: "لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى"، ثم أتبعها بمبادرة خامسة بقوله: "فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى".
مفهوم المبادرة
المبادرة: مصدر من (بادر) وهو: سبق إلى اقتراح أمر أو تحقيقه أو القدرة أو الميل المطلوب لبدء شيء ما، ويقال: في يده زمامُ المبادرة أي: الأمر مفوض إليه، والمبادرة في الحرب هو: أن يسبق قائدُ جيش قائد جيش العدو إلى خطة حربية تمكنه من الانتصار عليه.
إذن لو سأل أحدهم من هو القائد المبادر؟
لقلنا بأنه الذي لا تكون أفعاله عبارة عن ردود أفعال عادية أو تلقائية يواجه كل فرد برد فعل، ولا يدري أين تسير سفينته، إنما لديه نظرة ونظرية واستراتيجية في حياة.. فالقائد لا يسمح للاستجابات الشرطية أو الآنية أو أي متغيرات اجتماعية أو إدارية أو غيرها أن تحركه بل هو الذي يكون محط تأثير بها.. وهذا ما نجده في سيرة حياة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)..
بكاء علي (ع)
جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بحاجة، وبعد أن أعطاه (عليه السلام) حاجته بكى (عليه السلام)، فسأله أحدهم ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟
فقال (عليه السلام): كنت أود أن أعطيه دون أن يسأل! أي أن أبادره بالعطاء، فأخاف أن يحبط أجري؟!
لذلك كان يقول عليه (السلام): "السخاء ما كان ابتداء، أما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم".
من هو المبادر؟
لعل من أهم التساؤلات التي يمكن طرحها في المقام ونحن بصدد الحديث عن أسرار القيادة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) يكمن في من هو المبادر؟ وما هي المبادرة؟ وكيف أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يوصلها إلينا بتصرفاته و أفعاله لا بأقواله وكلماته فقط؟
فالمبادر هو الذي يسبق الآخرين بخطوات للأمام قبل أن تسبقه المشاكل، وهو ذو نظرة مستقبلية يقرأ الأفق ويحدد ما يريد وما لايريد من الأهداف، وهو من يحرك العجلة لا أن تحركه الظروف والمقتضيات.
فالقائد المبادر يكون مدفوعاً من قبل قيمه ومبادئه، أما الآخرون فيتأثرون بالبيئة المحيطة و يتحركون ضمن نظام الفعل و رد الفعل، فإذا رأى أحدنا فقيراً أعانه و إلا فلا!! بينما القائد المبادر هو من يبحث عن مشروع خيري اجتماعي تنموي اقتصادي متكامل ليؤسسه ويتفاعل معه وهكذا يتحرك.
وهذا هو المطلوب من شبابنا اليوم حيث يجب أن يقدموا ويقترحوا، لا أن يُقترح عليهم ويطبقوا ما أمليَ عليهم.. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "بادِرْ شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك".
فالمبادرة هو أن يكون لك موقف و بصمة وخطوة للأمام.. كم هو رائع أن يبادر الإنسان لمد يد العون لأخيه ويرى السعادة على وجهه والدعاء على يديه.
القائد الناجح..
أن تكون قائداً مبادراً يتطلب أن تجلس و تخطط لتعرف ماذا تريد أن تنجز.
إن أبرز ما يميز القائد الناجح عن غيره هو مبادرته لاقتناص الفرص بينما الآخرون مشغولون بالتوافه من الحياة لا يدرون أين يضعون أرجلهم، فأصحاب المبادرات هم الذين يوفقون دون غيرهم لاقتناص الأرباح وترك الخسائر والفتات لغيرهم، فلولا عنصر المبادرة:
لما قام "أديسون" بمئات الاختراعات و التجارب واكتشاف المصباح الكهربائي، ولم يتمكن "استفنسمن" من اكتشاف الآلة البخارية، ثم توالت الاكتشافات كالسيارة والسفينة والقطارات وغيرها..
فالمبادر يكون كالعلامة "الشيخ عباس القمي" عندما علم أن في مدينته يوجد العديد من المساجد التي بحاجة إلى ترميم لم يقف متفرجا، لكن بادر بابتكار طريقة وهي أن يصلي كل يوم في مسجد من تلك المساجد ويجمع التبرعات لترميمها، ثم ينطلق ليعيد الكرّة.
ومن هنا يمكن لنا معرفة الفرق بين القائد المبادر الناجح وغيره من القادة والناس؟ فالأول قادر على مشاهدة بدائل السلوك المطلوب ويحسن الاختيار ويعتبر نفسه مسؤولا عن مواجهة التحديات و تحقيق الإنجازات و أنه المؤثر في الأحداث، لا كغيره ينتظر أن يأتي الآخرون لتحريكه، فهو من يقرع الجرس أولاً.
وعلى هذا الأساس سنتحدث عن صفة المبادرة في الشخصية القيادية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام):
علي (ع) هو الأول..
فالإمام علي (عليه السلام) هو الأول و المبادر في كل جنبات حياته المشرقة، فهو أول من آمن بالرسالة المحمدية، وهو أول من ضرب بالسيف حتى قال عنه رسول الله – صلى الله عليه و آله - : لم يستقم الدين إلا بسيف علي (عليه السلام)، ومال خديجة (رضوان الله تعالى عليها)، وهو أول من لبى و أجاب و أعلن نصرته لله عز وجل والشريعة السمحاء.
فإن المتتبع لحياة أمير المؤمنين (عليه السلام) ومسيرته المشرقة يلاحظ بشكل لا يدع مجالا للشك نبوغه وامتلاكه للصفات القيادية بشكل جلي و واضح، وبالأخص صفة المبادرة، فمنذ شروق شمس الإسلام وهو يُرسخ في نفسه هذه الصفة....
كان (عليه السلام) مبادراً للاهتمام برعيته ولم ينتظر أحداً حتى يدق باب بيته ويطلب منه، بل كان هو بذاته يخرج ليقوم بهذا العمل العظيم.
إن الإمام (عليه السلام) صنع التاريخ بمبادراته الإيجابية لا بخوفه وتموضعه السلبي، فالتاريخ له أبطاله وقادته المبادرون، لا المتخاذلون والمتقاعسون، فعمرك يقاس بما تقدمه لا بما تتركه و تخاف أن تطرحه خشية الآخرين، فكم من مبادرات تكسّرت على صخرة الخوف من الانتقادات؟!
فالزمن كتيار كهربائي سريع لا يتوقف لمن توقفوا، ولا ينتظر من تأخروا، ولا يتباطأ لمن تباطؤوا.
فها هو الإمام (عليه السلام) يؤكد على هذه الحقيقة بجملة من كلماته فيقول: "انتهزوا فرص الخير فإنها تمر مر السحاب"، و "بادروا أعمالكم و سابقوا آجالكم فإنكم مدينون بما أسلفتم ومجازون بما قدمتم ومطالبون بما خلفتم"، و "الفرصة سريعة الفوت، بطيئة العود".
الخوف من المبادرة..
يا ترى ما الذي يمنع البعض من أن يبادر و ينجح؟!
هناك خوفان يمنعان أكثر الناس من تحقيق آمالهم:
الخوف من الإخفاق، والخوف من المبادرة..
ولكن يجب أن نعلم بأن في تجاوزهما تكمن أولى خطوات النجاح والقيادة، فمفتاح التغيير هو: المبادرة، وبدونها لن يحقق أحد أي إنجاز أو تقدم..
قانون المبادرة..
من هذا المنطلق نلاحظ بأن الشارع المقدس قد وضع بعض القوانين ليؤكد هذا المعنى ويرسخ هذا المفهوم، فقاعدة (الأرض لمن سبق) أي في التعمير أو (الأرض لمن عمرها).. تؤكد هذه الحقيقة حيث إن قانون العقار الإسلامي يعطيك الحق بأن تبادر بالحصول على قطعة أرض من خلال تسويرها والبدء بتعميرها أو زراعتها، وعلى هذا الأساس نرى بأن في الزمن السابق لم يكن هناك أزمة للسكن أو الزواج أو الحصول على الأرض والعمل والزراعة، لأن قانون المبادرة هذا كان شبه متاح للجميع، والكفيل بأن يحصل كل فرد من أفراد المجتمع على حقه في العيش والعمل و الإنتاج، أما الآن فالكل ينتظر مبادرات من الحكومة أو من الشركات اللاهثة وراء مصالحها.
سارعوا إلى الخيرات
هناك روايات عديدة قد نقلت عن أمير الكلام الإمام علي (عليه السلام) تخاطب ضمير الإنسان وتزرع فيه روح المبادرة للعمل سواء للآخرة أو الدنيا حيث يقول (عليه السلام):
"ثابروا على الطاعات، وسارعوا إلى فعل الخيرات، و تجنبوا السيئات، وبادروا إلى فعل الحسنات، وتجنبوا ارتكاب المحارم".
نلاحظ هنا بأن مفهوم الحسنات مفهوم شامل كبير مرن يشمل أي مشروع ايجابي يمكن أن يقوم به الانسان وليس مقتصراً على المسائل العبادية كالنوافل أو الصلاة أو الصيام.
مواقف لا تنسى..
لقد كانت صفة المبادرة من أهم صفات القائد الناجح وهذا ما انعكس على حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) وقيادته للأمة، ويتضح ذلك في العديد من مواقفه نقتطف منها مايلي:
-نعم للتذكير:
لما كان يجلس الإمام مع أصحابه، كان ينصحهم ويعلّمهم ويذكرهم بآيات الله سبحانه وتعالى ليورث لهم هذه الصفة القيادية فيقول لهم: أيها الناس الآن من قبل الندم بادروا للعمل و للخير...
-لا للتسويف:
كان يحثهم على المبادرة بشكل صريح حيث يقول: "بادروا بعمل الخير قبل أن تنشغلوا بغيره".
-اغتنام الفرص:
في موقف آخر يوضح الإمام (عليه السلام) مدى ما يمكن أن يتجرعه القائد من ضرر إن ترك عنصر المبادرة و الذي يعتبر من أهم المهارات الإدارية التي تميز المنظمة أو المؤسسة عن نظائرها فيقول: "بادروا الفرصة قبل أن تكون غصة".
كيف أكون مبادراً؟
قد يتساءل البعض في كيفية التمكن من اكتساب صفة المبادرة ليتملك صفة من صفات القائد الناجح؟
وفي مقام الجواب يمكن القول:
يجب أن تكون شجاعاً باتخاذ القرارات لا متردداً..
متى ما طلب منك أن تكون مبادراً في أي موقف تقدم ولا تخف فإنها أولى خطوات النجاح و زرع الثقة بالنفس..
يجب أن تعرف أنك تتحمل نتيجة خطأك لذا لا تخف.
ادرس خطواتك أو ما سوف تقدم عليه بعناية و دقة، و أخلص النية لله عز وجل، ثم اتخذ القرار و بادر و دع النتيجة على المولى عز وجل.
إذن المبادر هو الذي يمتلك كلمة السر وهي (هيا لنبدأ العمل و نحقق الهدف).
اضافةتعليق
التعليقات