في حديث عن إمامنا العسكري لإمامنا المهدي (عليهما السلام) قال في مقطع منه: «واعلم: أن قلوب أهل الطاعة والإخلاص ترع إليك مثل الطير إذا أمّت أوكارها، وهم معشر يطلعون بمخائل ذلة الاستكانة وهم عند الله بررة أعزاء، يبرزون بأنفس مختلة محتاجة وهم أهل الثقة والاعتصام، استنبطوا الدين فوازروه على مجاهدة الأضداد، خصّهم الله باحتمال الضيم في الدنيا ليشملهم باتساع العز في دار القرار، وجبلهم على خلائق الصبر عبد الله العاقبة الحسنى وكرامة حسن العقبى»(١)، عند التأمل في هذا الحديث* نجد إنه يعطينا علامات لأصحاب هذه القلوب تميزهم عن غيرهم في علاقتهم مع ربهم وإمام زمانهم:
العلامات الأربع لأهل الإخلاص والطاعة
العلامة الاولى بقوله (صلوات الله عليه): [ترع إليك مثل الطير إذا أمّت أوكارها]، فهي بمثابة خريطة لنفسية أهل الطاعة والاخلاص في علاقتهم مع إمام آخر الزمان، فهم في إرجاع أمورهم وشؤونهم إليه من أهل التسليم والتوكل كالطيور، كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «لو أنكم كنتم توَكَّلُون على الله حق توَكُّلِهِ لرزقكم كما يرزق الطير، تَغْدُو خِمَاصَاً، وتَرُوحُ بِطَاناَ»(٢).
فأهل الطاعة لا ينشغلون بهموم أرزاقهم المادية من أين يحصلونها؟ بل هم يرجعون بذلك لوليهم الذي هو خليفة الله في أرضه، فهم يعيشون الأمان المادي بأن هناك من يمدهم ويرزقهم ويرعاهم، ويعيشون الأمن النفسي بالتوكل عليه في يقينهم بدوام تهيئة الأسباب التي بالسعي فيها ينالونها - بالنتيجة الطيور تحركت وسعت ثم نالت رزقها- فالمقام هنا ليس فيه دعوة لتواكل على الإمام بل استشعار حضوره وولايته وكفالته لمواليه وشيعته.
العلامة الثانية بقوله (صلوات الله عليه): [وهم معشر يطلعون بمخائل ذلة الاستكانة، وهم عند الله بررة أعزاء]، إذ أن بها تبيان لعلاقتهم بالله تعالى، فهم يظهرون له (سبحانه وتعالى) حالة الذلة والاستكانة، فيُظهر الله تعالى عنهم عند وليه وأهل خاصته اعتزازه بهم وكيف أنهم من أهل البر ومن ذوي عمل الأبرار.
كما في سورة آل عمران نجد آيات تصور لنا حال أمثال هؤلاء بقوله تعالى: {رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ(١٩٣)}، بالمقابل تعالى يذكر حقيقة أحوالهم وأعمالهم بقوله: {فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ(١٩٥)}، فما أظهروه هو طاعتهم بتلبية نداء المنادي للايمان، وما اظهره عنهم تعالى من طاعات أنهم من أهل الهجرة والمجاهدة وممن تحمل الأذى والقتل في سبيله عز وجل.
أما العلامة الثالثة بقوله (صلوات الله عليه): [يبرزون بأنفس مختلة محتاجة وهم أهل الثقة والاعتصام]، هي أيضًا مرتبطة بالعلامة السابقة -بشكل أو بآخر- في ذكر أحوالهم مع ربهم، فهم لا يقدمون طاعتهم وكمالياتها وقوتهم أو غناهم، بل يبرزون بين يدي ربهم معايبهم ونواقصها وفقرهم إليه، مع أنهم من أهل الثقة الذين لا يُخلُون بوعودهم ولا ينقضون عهودهم التي بينهم وبين ربهم، أي وصلوا إلى درجة من العصمة المكتسبة التي تؤهلهم أن يكونوا من أهل الوفاء والاستغناء بالله تعالى.
ثم العلامة الرابعة وهي: [استنبطوا الدين فوازروه على مجاهدة الأضداد]، فهي تشير إلى وصولهم إلى درجة من التعمق في الدين والتفقه فيه بدراية وبصيرة، فكانوا له سداً منيعًا وحصنًا يحميه من الشبهات ويرد عنه كل الاجتهادات التي لا تنتمي إليه من قِبَلِ كل من ضده ويعاديه.
هبتان إلهية لأهل الطاعة والإخلاص
ثم يذكر الحديث علامتان وكأنها هبات إلهية لحيازة تلك العلامات التي اوجدوها وصنعوا بها ذواتهم:
الأولى بقوله (صلوات الله عليه): [خصّهم الله باحتمال الضيم في الدنيا ليشملهم باتساع العز في دار القرار]، إذ قال الإمام (عليه السلام) إن الله تعالى هو الذي خصهم بها وليست من صنعهم، فهم في مجاهدة النفس والأعداء قد يصلون إلى مرتبة تحمل الضيم، ولكن هنا الإمام عبر بمفرد [احتمال] أي الاستمرار في التحمل حتى ظهور دولة العز الإلهية ونيل الخاتمة الحسنة، تلك التي تقر معالمها في قلوبهم وبها يصلون إلى محل استقرارهم الأبدي، أي -وكأن- الله تعالى هنا رزقهم قلوب مستقيمة على طاعة الإمام والإخلاص له مع كل ما سينالهم من ضيم العيش في زمن الغيبة.
والثانية هي: [وجبلهم على خلائق الصبر لتكون لهم العاقبة الحسنى وكرامة حسن العقبى]، فهذه أيضًا تبين أن هذه الهبة منه سبحانه، فالله تعالى هو جبلهم أي أظهر ما في فطرتهم من خلائق الصبر وليس فقط الصبر في تحمل ما في غيبة وظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه) من ابتلاءات وتمحيص وتكاليف، لينالوا بذلك أجر الصابرين في الآخرة، بعد أن نالوا كرامة الكون مع الصابرين في زمن الغيبة وفي الظهور أيضًا، فحسن العقبى في الدنيا مقدمة لنيل العاقبة الحُسنى في الآخرة.
——————-
اضافةتعليق
التعليقات